شكلت مجزرةُ الكيماوي في مدينة خان شيخون جنوب إدلب بمأساويتها حدثاً فارقاً في تاريخ الثورة السورية، واختباراً جديداً لتوازن القوى على الجغرافية السورية وثقلها في الميدان.. اختباراً سيحدد مستقبل العملية السياسية.
لم يتوقع بشار الكيماوي عند ارتكاب المجزرة أن يتحرك العالم بهذه الطريقة، فقد استخدم "الكلور" في اللطامنة قبل مجزرة "خان شيخون" بأيام معدودة دون أن يُلام بل صَدَرَت إشاراتٌ من البيت الأبيض ووزير خارجية الولايات المتحدة تيلرسون ومندوبتها في مجلس الأمن نيكي مفادها أنّ الأسدَ ضرورةٌ في هذه المرحلة التي يجب التركيز فيها على قتال تنظيم الدولة.
وبدا أنّ بقاءَ بشار الكيماوي حقيقة لا تقبل النقاش، ما دفع المبعوث الدولي دي ميستورا لمطالبة المعارضة السوريّة بقراءة الموقف الأمريكي، والتخلي عن مطلب رحيل الأسد.
اعتبر الأسد ذلك خطوطاً خُضرا من الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا سيما أنّه يقتل يومياً في بقاع أخرى من سوريا ما يماثلُ الأعداد التي قتلها خنقاً في خان شيخون، فأخذته العزّة بالإثم والعدوان، فارتكب إثماً بعدوانه الكيماوي الهادف ضرب معنويات الشعب الثائر، ووضعهم أمام فرضية العودة لحظيرة الطاعة أو الموت بلا رحمة دون أن يبكيهم أحد، وهدف في الوقت عينه اختبار إدارة ترامب اختبارا، حقيقياً، ولا نستبعد هنا دوراً روسياً في هذا الاختبار.
فمن المستبعد أن يُقدِمَ النظامُ على هذه الخطوة الحمقاء دون موافقة الروس بل دون توجيههم، ولاسيما أنّ قواته والميليشيات الداعمة لها تحقق تقدماً على الأرض، وهذا ما يُفسِّرُ استماتة الروس بالدفاع عن الأسد في مجلس الأمن، والحالة الهستيرية التي أعقبت قصف مطار الشعيرات.
وجدها دونالد ترامب الرئيس "غريب الأطوار" الذي يصعب التنبّؤ بقراراته فرصةً ذهبيةً لتلميع صورته، والظهور بمظهر رجل الدولة الذي يستحق زعامة دولة عظمى، فحمّل سلفه أوباما وإدارته جزءاً من المسؤولية عندما غضُّوا الطرفَ عن الخطوط الحمراء التي رسموها، وسمحوا للأسد بتجاوزها ليرسم أوباما بذلك ويقدم صورةً ضعيفةً لأمريكا خلافاً لما سيسعى له ترامب من إعادة هيبة الولايات المتحدة الضائعة.
وجدها ترامب فرصة لتحجيم روسيا، ووضعها ضمن حجمها الطبيعي، وليبعد الشكوك عمليّاً حول أي دور روسي وراء وصوله لمنصب الرئيس، وجدها فرصةً ليثبتَ أنّ في العالم قطباً واحداً، فعندما يتعطل مجلس الأمن طوال ست سنوات فذلك برضى أمريكا، فقرارات الفيتو الروسية في مجلس الأمن ورقة التوت التي حاولت الولايات المتحدة من خلالها تأجيل الحل السياسي في سورية.
فعلها ترامب وقصف مطار الشعيرات وسط سورية دون أن ينتظر قراراً من مجلس الأمن، وغير آبهٍ بالقوانين الدولية التي ادعى سلفه أوباما أنها تكبله وتمنعه من التدخل العسكري في سورية.
ولكن لا ينبغي الذهاب بعيداً في أهداف دونالد ترامب فمطار الشعيرات قاعدة جوية من جملة قواعد جوية كثيرة، وخروجها لا يعني خروج بشار الكيماوي وانهيار حكمه، فخطوة قصف مطار الشعيرات ما زالت تندرج ضمن سياسة إدارة الصراع، وإعادة ترتيب الأوراق بعد أن استبدّت روسيا وإيران بالملف السوري، فالقصف الأمريكي رسالة قوية للروس والإيرنيين بأنكم تحكمتم بسورية بإرادتنا، وبإرادتنا نخرجكم صفر اليدين.
وشكل قصف مطار الشعيرات بداية إعادة توازن الدول على الجغرافيا السورية، فالولايات المتحدة عادت لحلفائها التقليديين أوربياً وإقليمياً برسالتها العسكرية مما يعني بالضرورة عودة الدورين السعودي والتركي بقوة للملف السوري بعد أن كاد يتلاشى نتيجة التغوّل الإيراني والروسي، وغياب دور أمريكي فاعل عن المشهد وبدا ذلك واضحاً من خلال الدعم السعودي الصريح والواضح لقصف مواقع الأسد العسكرية، وعرض الرئيس التركي المساعدة في أي تحرك عسكري ضد الأسد.
ولا شكّ أنّ روسيا ستعيد حساباتها، ولا سيما فيما يتعلق بمستقبل الأسد فهي لا تستطيع الدخول في مواجهة مع أمريكا، وما بدر من روسيا عقب القصف جعجعة بلا طحن، كما أنّ روسيا لا ترغب خسارة العلاقات مع تركيا ولا سيما أنّ تركيا بذلت ما تستطيع وتعاونت مع الروس لآخر مدى في الملف السوري، ويدرك الروس قبل غيرهم أنهم والنظام والإيرانيين من أخلّ بالاتفاقيات لا الأتراك والمعارضة.
ولعلّ أهم خلاصة تفهم من مجزرة خان شيخون وقصف مطار الشعيرات أنّ إدارة الصراع ستنتهي حتماً برحيل بشار الكيماوي قبل بدء المرحلة الانتقالية بعد أن كان مسموحاً بقاؤه في المرحلة الانتقالية، وربما تعويمه ونظامه بعدها.
أما اليوم فلم يعد ذلك ممكناً فبشار الكيماوي لا يمكن أن يكون شريكاً في الحرب على الإرهاب بدايةً، ولا يمكن أن يحكم شعباً أباده بالكيماوي.
وقد يكون دونالد ترامب لاحقاً رأس حربة في مشروع الحل السياسي المُفضي لرحيل بشار الكيماوي ليظهر نفسه نصيراً للمستضعفين المظلومين مخلصاً للمقهورين، وليمحي صورة أمريكا الظالمة الداعمة لإسرائيل الباحثة عن مصالحها من ذاكرة العرب، والتي قتلت ملايين الأبرياء. وإجرام بشار وظلمه يساعد ترامب كثيراً في هذه الزاوية، ولا سيما أنّ كثيراً منّا يحمل ذاكرة الدجاج.