ثار البعض على رأي لي أعلنته في أحد البرامج التلفزيونية، مفاده: جواز إجراء استفتاء شعبي على تطبيق الشريعة، وهو رأي ذكرته من قبل في كتابي (الخوف من حكم الإسلاميين) منذ خمس سنوات تقريبا، وانطلقت برأيي من فقه القرآن الكريم والسنة النبوية، فقد رأينا رسولا من أولي العزم من الرسل وهو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يمارس الاستفتاء على تنفيذ أمر من أوامر الله عز وجل، بالحوار والإقناع، وذلك عندما رأى نبي الله إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده الوحيد إسماعيل، يقول تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات: 102.
فقد رأى إبراهيم عليه السلام رؤيا أنه يذبح ولده إسماعيل، ورؤى الأنبياء حق، وواجبة التنفيذ، فهل قام بتنفيذ الأمر وحده، دون رجوع لمن سيطبق عليه الأمر؟!! لقد عرض الأمر باستفتاء على ابنه، وذلك واضح وبين في قوله تعالى: (فانظر ماذا ترى؟ وماذا ترى تعني التفكير، ثم الإجابة، وانتظار إحدى إجابتين: إما نعم، وإما لا. وقد جاءت إجابة نبي الله إسماعيل، بقوله: (يا أبت افعل ما تؤمر)، وبدلالة الموافقة من جميع الأطراف التي تم معها الاستفتاء، (فلما أسلما وتله للجبين) فأسلما هنا بضمير المثنى، لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو دليل واضح وبين على جواز الاستفتاء على القضايا المعروضة على الناس، لا أن تنزل عليهم الأوامر بلا تمهيد وإقناع.
وعندما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وعرض التحكيم بين المسلمين واليهود، فقيل لليهود: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروا النزول على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه لأنه كان حليفهم في الجاهلية، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال له: احكم يا سعد، فقال سعد: الله ورسوله أحق بالحكم. قال: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحاكم وفي يده سلطة القانون وتطبيقه والتشريع، فلماذا قبل بحكم سعد، ولما حكم سعد في بني قريظة، قال له صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات"، وهنا عدة أسئلة مهمة: لقد قال له صلى الله عليه وسلم: لقد أمرك الله أن تحكم فيهم، فلماذا لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم، لينفذه سعد، أو ينطق به حتى لا يقول حكما آخر؟ وبعد حكمه أخبره أن حكمه هو حكم الله، إذن لقد كان لله فيهم حكم، فلماذا قبل المسلمون بتحكيم سعد، ويقينا سعد لا يعرف حكم الله فيهم، بل حكم بما يراه حقا.
والسؤال الأهم: ماذا لو حكم سعد رضي الله عنه بغير هذا الحكم، أو بحكم أخف منه، هل كان سيرفضه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة؟! هذا سؤال مهم الإجابة عنه، فلو رفضه فسيكون وقتها قد خالف ما أقره من التحكيم، وهو ما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم في مواقف سابقة ولاحقة، لم ينل حقه كاملا، كصلح الحديبية وقبل بتحكيم فيه بعض الجور على المسلمين، لأنه ارتضى من البداية تحكيم ووساطة الوسطاء.
أما النصوص التي يستشهد بها المعارضون لرأيي من مثل قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65، فهذا ما يخص الفرد من حيث إيمانه بشرع الله، بل لو رفض مسلم حكم شرع الله جحودا منه للشرع لأثم بلا نزاع، ولدخل في دائرة الكفر والعياذ بالله، ولكن الاستفتاء على تطبيق الشريعة هو أمر إجرائي، وليس أمرا مبدئيا من حيث إيماننا أو عدم إيماننا بها، وهو ما لا يفهمه المغالون في الأمر، فرق بين إيمانك بالشريعة، وبين وسيلة تطبيقها، ووقت تطبيقها المناسب والطريقة التي ستطبق بها، وهل المجتمع مهيئ لها أم لا؟ في زمن لا تملك فيه قضاة ولا شهود عدول، ومن تهيئة الناس لتطبيق الشريعة، بعد شرحها، أن يتم الاستفتاء عليها، ليعلم الناس ماذا اختاروا.
وعندما أعلن الرئيس اللواء محمد نجيب إلغاء الدستور المصري سنة 1952م بعد قيام ثورة يوليو ببضع شهور، وقد كانت النيات المعلنة تتجه إلى إعلان تطبيق الشريعة، وأن الدستور الجديد سيستند في كل ما فيه للشريعة الإسلامية، فصرح الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين بما يلي: (أنه يرى أن تستفتى الأمة أولا في دستورها الجديد؛ وهل هي تختار شرائع الإسلام أم شرائع الغرب، فإذا رأت الأمة أن تُحكم بالإسلام، كان على اللجنة التي تشكل لصياغة الدستور أن تنفذ ذلك، وأن تلتزم به، ولم تعد مطالبتها بالتزام الشريعة استجداء لا يليق بالإسلام، ولا بالأمة المسلمة، وإذا رأت الأمة أن تُحكم بشرائع الغرب، وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم، عرفنا أنفسنا، وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها). انظر: مجلة (المسلمون) الشهرية العدد الثاني من السنة الثانية الصادر في ربيع الآخر سنة 1372هـ ـ ديسمبر سنة 1952م. ص: 103.
وما قال به الهضيبي نادى به العلامة السلفي المحدث القاضي الشيخ أحمد شاكر، الذي يشرح خطته في تغيير القوانين في مصر لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، فيقول: وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السليم: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها، ونجاهد بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخابات، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارا، بل سنجعل من إخفاقنا - إن أخفقنا في أول أمرنا - مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصر لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله، وفي سبيل الله.
فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب إذا فاز أحدها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة!). انظر: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين للشيخ أحمد شاكر ص 41،40.
فهذه نصوص من القرآن والسنة، ونقول عن معاصرين ثقات في العلم والدعوة، فهل يبقى بعد ذلك مجال للمزايدة، والاتهام في الدين؟!
[email protected]