حسنا فعل البطريرك الماروني بشارة الراعي، بأن أعاد وضع مسألة سلاح «حزب الله» على الطاولة. في مقابلته الأخيرة مع محطة «سكاي نيوز» قال: إن «حزب الله» أحرج اللبنانيين وقسمهم لدى دخوله سوريا، من دون أن يقيم وزنا لرأي الدولة اللبنانية، مضيفا أن هناك انقساما حول مشاركته في الحرب السورية.
وأضاف الراعي أن سلاح الحزب مثار انقسام بين اللبنانيين ومصدر اختلال عميق لفكرة المواطنة، حيث إن «هناك مواطنا يتساءل لماذا شريكي مسلح وأنا لا؟».
ولم يجامل البطريرك على عادة السياسيين حين تطرق إلى موضوع السلاح الفلسطيني ودوره في الحروب اللبنانية، الأهلية منها وحروب الآخرين على أرض لبنان، بحسب العبارة العبقرية للراحل غسان تويني. فجاء موقفه، موقفا من السلاح عامة ودوره الأكيد في إسقاط الدولة وربما الكيان، أكان سلاح منظمة التحرير أم سلاح «حزب الله».
«إنه السلاح يا هذا» قال الراعي عمليا، إن كان لنا أن نستعير، وننوع على الشعار الأشهر خلال الحملة الانتخابية الناجحة لبيل كلينتون ضد جورج بوش الأب عام 1992.
حين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، لم يكن بين الأزمات الداخلية السياسية والاجتماعية، ما يستعدي هذه الدرجة الخطيرة من الاقتتال بين المسلمين والمسيحيين. ولولا ركوب السلاح الفلسطيني على هذه الأزمات واستثماره في ترتيبات الراحل كمال جنبلاط وحساباته الدرزية التاريخية مع الموارنة، لما تسنى للحرب أن تندلع بالعنف والتوقيت والعمق الذي اندلعت به. ولولا سلاح «حزب الله»، أقله منذ ما بعد حرب يوليو (تموز) 2006، ودخول هذا السلاح منطقة الانقسام العميق بين اللبنانيين، لما وصل البلد إلى حالة الاهتراء الخطيرة التي وصل إليها. في المرتين كان السلاح وجهة أكيدة نحو تفكك الدولة وضعفها.
ليس موقفا عابرا إذن. ولا مرشحا لأن يسلك مسارات التورية، وإن كان سبق للبطريرك الراعي أن فاجأ اللبنانيين بأسقف عالية في موضوعات حساسة، ثم ما لبث أن تراجع عنها موضحا هنا ومفسرا هناك، مما نال من بعض مصداقية هذا الصراح وسمعته حين يتصل الأمر بالثبات على الكلمة.
ما يختلف في مواقفه الأخيرة أنها ليست اعتراضا أو اقتراحا سياسيا، بل هي تعبير دقيق عن ثوابت الكنيسة المارونية، صانعة لبنان، تجاه أي تمرد على الدولة. فهذه كنيسة وقفت ضد الرئيس الراحل بشير الجميل، أحد أبرز زعماء الموارنة خلال الحرب، لأنها وجدت في سلاحه تمردا على الدولة، بمجرد أنه سلاح خاص، على الرغم مما كان يحف بالوجود المسيحي من أخطار كبرى ومحدقة. وكنيسة تجرأت على قول لا للمليشيات المسيحية خلال الحرب، ليس فقط لأن اقتتالها الداخلي تحت عنوان «توحيد البندقية» يهدد المسيحيين، بل لأن قناعة الكنيسة أن السلاح لا ينتج أي فضيلة من حيث المبدأ. فالكنيسة هددت السيدين ميشال عون وسمير جعجع، يوم رأت أن اقتتالهما أواخر ثمانينيات القرن الماضي يهدد ما بقي من هيكل الدولة اللبنانية قبل أن يهدد المسيحيين. وكنيسة حمت تسوية الطائف لأنها تعلم أن التسوية كانت المدخل الوحيد لإعادة إحياء لبنان الكيان والدولة.
في هذا السياق المبدئي العريض يندرج موقف بكركي، لا سيما أنه جاء بعد كلام كبير لرئيس الجمهورية ميشال عون، لم يسبقه إليه أحد في إلصاق سلاح مليشيا «حزب الله» بالدولة ومؤسساتها وجيشها.
والأهم أنه كلام لا يأتي في لحظة فراغ دولي بخصوص لبنان، بوصفه ساحة من ساحات إيران.
يمكن القول إن تصريحات الراعي تزامنت مع الانطلاق الفعلي لعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على مستوى السياسة الدولية، بعد فترة تكوين الإدارة وما رافقها من عثرات وبعد استهلاك المعركة بينه وبين الإعلام. وليس خافيا أن بين أولويات ترامب الخارجية هي تقليص رقعة النفوذ الإيراني وتهيئة أرضيات مناسبة لهذه المهمة الصعبة. من ذلك اتصاله بالرئيس الفلسطيني محمود عباس واستقباله لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والحضور العسكري الأمريكي المباشر على الأرض السورية، والتهيئة لتحرير الرقة من «داعش»، ثم إيجاد حل سياسي مبني على فكرة الانتقال السياسي. ومن ذلك أيضا اللقاء التاريخي بينه وبين الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي، الذي كسر خلاله ترامب كل بروتوكولات الرئاسة إكراما لضيفه. ومن ذلك أيضا ما ستشهده المنطقة من زيارات ولقاءات رفيعة المستوى قبل شهر رمضان المبارك، من بينها زيارة محتملة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرياض. مشهد دولي جديد بدأ بالتشكل وحيوية دولية تطوي عمليا فترة الكمون والتعثر التي ميزت عهد باراك أوباما، وتطوي فترة التسييد المجاني لإيران على المنطقة.
لبنان لن يكون بعيدا عن ترتيبات هذا المشهد، وكلام البطريرك الراعي في صميم هذه التحولات، قصد ذلك أم لم يقصد.