في عالمنا العربي، اكتشف مفهوم المجتمع المدني مع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، وارتقى تدريجيا ليصبح مكونا إيديولوجيا وحركيا رئيسيا في رؤى القوى الليبرالية واليسارية وتيارات الإسلام السياسي.
آنذاك، لم ينفصل اكتشاف المجتمع المدني عن إخفاق أغلبية نخب الحكم في إنجاز أهداف التنمية المستدامة، والاستقلال الوطني، وصياغة عقد اجتماعي توافقي يضمن للمواطن حقوقه وحرياته، ويشركه في إدارة الشأن العام، واليوم يعبر استمرار الاهتمام بالمجتمع المدني، وفاعليه من منظمات غير حكومية، ونقابات عمالية ومهنية، وشبكات النشطاء عن بحث لا ينقطع عن سبل إنقاذ بلادنا من نخب الحكم الفاشلة، واحتواء التداعيات الكارثية لسياساتها وممارساتها.
خلال عقود خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كان الناس قد وضعوا آمالهم في الدولة ـ دولة ما بعد الاستعمار. فنظر إلى الدولة على أنها أداة إنجاز التنمية والتحديث، أو وسيلة الإبقاء على تماسك المجتمع والحفاظ على الاستقرار. وتشابه الأمر بين الجمهوريات التي حكمتها نخب عسكرية مستبدة، وبين النظم الملكية والأميرية التي لم تقترب أبدا من حكم دستوري.
غير أن غياب التنمية والتحديث، وتمدد الاستبداد ليصبح الحقيقة الكبرى في بلاد العرب، وتراجع الاستقلال الوطني على وقع عودة الجيوش الأجنبية وقواعدها، أفقد الناس تدريجيا إيمانهم بالدولة، وأفقد نخب الحكم شرعية القبول الشعبي، ودفع إلى اكتشاف مفهوم المجتمع المدني. وفي حين مرت الثمانينيات والتسعينيات دون تنشيط واسع النطاق للمنظمات غير الحكومية ولفاعلي المجتمع المدني الآخرين، وجميعهم واجهوا إجراءات تقييدية مشددة، جاءت السنوات الأولى من الألفية الجديدة بتحول جذري في أدوار المجتمع المدني عبر عنه صعود حركات كفاية و6 أبريل في مصر، وتبلور منظمات غير حكومية يسارية وليبرالية النزعة في تونس، وتقاطعها مع الحضور القوي للحركة العمالية، وبروز المبادرات النسوية في عموم بلاد العرب.
تغير مشهد العالم العربي قبيل الانتفاضات الديمقراطية في 2011، وانتشرت الاحتجاجات السلمية في كل مكان باستثناء بلدان القبضة الأمنية الشاملة كالعراق وسوريا والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وكان في ذلك المقدمات الفعلية لطلب التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي الذي ترجمته الجماهير المتظاهرة في شوارع وميادين المدن العربية.
مسارات مختلفة بين تونس ومصر، بين ليبيا وسوريا، بين اليمن والبحرين؛ والمشترك بينهم هو سعي فاعلي المجتمع المدني إلى استعادة الدولة من نخب الحكم المستبدة والفاسدة وإعادة تعريف معاني الشرعية والعدالة والحياد وإنقاذ الناس من السقوط في خانات اليأس.
فالأصل في العلاقة بيننا كمواطنين وبين الدولة هو عقد اجتماعي يلزمنا بالحفاظ على استقرار المجتمع، وباحترام حدود الفعل السلمي في تعاملاتنا، ويعطي الدولة ومؤسساتها الرسمية الحق في استخدام كل الأدوات المتاحة والمنصوص عليها دستوريا وقانونيا، والمتعارف عليها سياسيا لضمان هذا الالتزام، ومن ثم حماية النظام العام كخير مشترك للجميع لا تقدم من دونه ولا ازدهار.
إلا أن لمثل هذه العلاقة التعاقدية بين المواطنين والدولة مجموعة من الشروط الرئيسية لا تستقيم من دونها، ويمكن إيجازها في الكلمات الثلاث الشرعية والعدالة والحياد. للدولة حق حماية النظام العام إن كانت تتمتع ممثلة في مؤسساتها ونخبتها وقياداتها بشرعية رضاء أغلبية واضحة من المواطنين عن أدائها.
وعلى الرغم من أن الترتيبات الديمقراطية، وفي القلب منها الانتخابات الحرة والدورية، وما يترتب عليها من تداول للسلطة تمثل الوسيلة الأفضل للتعرف على درجة الرضاء الشعبي وحدود تقلباتها، إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة. لا تعدم المجتمعات غير الديمقراطية وسائل بديلة لقياس الرضاء الشعبي تدور في المجمل حول تطبيق الحكم الرشيد بمضامينه كالشفافية والمساءلة والمحاسبة والكفاءة.
للدولة حق حماية النظام العام شريطة أن تلتزم في كافة أفعالها وممارساتها تجاه المواطنين مبدأ العدالة بمضامينه القانونية. والحقيقة أن الترجمة المجتمعية لمبدأ العدالة لا تعني سوى استقرار حكم القانون، أي أن يخضع الجميع حاكمين ومحكومين للنصوص الدستورية والقانونية ذاتها، وأن تطبق عليهم دون تمييز، بما يستدعيه ذلك من إعمال لمبادئ الفصل بين السلطات والمسؤولية والمحاسبة.
لا أتحدث هنا عن المعنى الاجتماعي للعدالة، فذلك على الرغم من أهميته هو أحد أهداف البشرية السامية التي ندر دوما تحققها، بل عن مضمونها القانوني كأصل ملزم للدولة وأساس لفعلها الذي يريد المجتمع المدني على امتداد بلاد العرب إما استعادته أو إنقاذه. فطلب التغيير يظل محكوما عليه بالفشل في مجتمعات لم يستقر بها بعد حكم القانون، ولا تخضع بها مؤسسات الدولة للمسؤولية والمحاسبة، ويكتشف بها الضعفاء من المواطنين أن ما يطبق عليهم باسم القانون يستثنى منه، كلا أو جزءا، أهل السلطة والنفوذ والمال.
للدولة حق حماية النظام العام عندما تحترم قاعدة الحياد إزاء تعددية مكونات المجتمع، فلا تفرق بين المرأة والرجل وتساوي بين المواطنين بغض النظر عن اللون والعرق والدين. المقصود، إذا، هو أن تصبح الدولة دولة كل مواطنيها، وأن يؤطر حيادها وما يرتبه من مساواة كاملة لحماية النظام العام. من ثم يصير لزاما على الدولة أن تضمن، قانونا وعملا، الحق المتساوي للمواطنين في ممارسة حرياتهم العامة والمدنية وأن تحميهم من التعسف والاضطهاد التمييزي.
هنا جوهر الدور الراهن المجتمع المدني على امتداد بلاد العرب، هنا سبب العداء الصريح للمجتمع المدني الذي تمارسه نخب الحكم المستبدة، ويدفعها إلى تعقبه وعقابه، هنا الأساس الذي سيستند إليه المواطن في اكتشاف ثقته في المنظمات غير الحكومية والنقابات العمالية والمهنية وشبكات النشطاء، وفي مساعيها استعادة الدولة من خاطفيها، وتمكين المجتمع من التنمية والتحديث.
نقلا عن "القدس العربي"
3
شارك
التعليقات (3)
مالك علي
الثلاثاء، 14-03-201711:46 م
يا مستر حمزاوي .. الم يكن هناك حكماً مدنياً لمدة عام كامل، ثم تآمرتم عليه بدلا من مساندته ، فقط لأنه لم يكن بالصبغة الانحلالية التي تروق لكم ؟!!!
عبد الله
الثلاثاء، 14-03-201708:12 م
متى تقولها بصراحة إن الحكم العسكري جريمة في حق الشعوب والإنسانية ؟ الدموع لن تجعل العسكر يرضون عنك .
عبد النبي رزق
الثلاثاء، 14-03-201708:22 ص
احس من توجهك انك تحمل هموم الاوطان لكن رهانك علي العلمانين خاسر جدا فهم مع من يدفع اكثر