يدخل المجند إبراهيم إلى مكتب رئيسه في العمل في المدينة التي نُقل إليها. بعد أن يقرأ الأخير ملفه يظهر إعجابه بما احتواه.
الكولونيل: هل تعلم المهمة الموكولة لك هناك؟
إبراهيم: نعم سيدي. على الجزيرة سأراقب حركة المهاجرين السريين والمهربين ثم أبلغ عنهم.
الكولونيل: هذا هو المطلوب.
المشهد من فيلم (ليلى، جزيرة المعدنوس – 2015) للمخرج المغربي أحمد بولان.
جزيرة ليلى، وتلك تسميتها المغربية مقابل التسمية الإسبانية جزيرة المعدنوس، تبعد عن الأراضي المغربية 200 متر وعن نظيرتها الإسبانية 15 كيلومترا. في العاشر من شهر يوليو 2002 وصل إلى الجزيرة، الصخرة غير المأهولة عشرة أفراد من القوات المساعدة المغربية، وهو ما اعتبرته إسبانيا غزوا وخرقا لاتفاقية التعاون وحسن الجوار الموقعة بين المملكتين في العام 1991، وجندت لاستعادتها جحافل من القوات البرية والبحرية والجوية. في السابع عشر من الشهر نفسه تمكنت قوة إسبانية من اعتقال الجنود المغاربة وإعادة الأمر لما كان عليه، بعد أزمة كادت تؤدي لنشوب حرب بين البلدين. خوسي ماريا أزنار، رئيس الوزراء الإسباني اليميني يومها، اعترف لاحقا أن استقالته كانت جاهزة لو نشبت الحرب. أما وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول، فأشار في مذكراته إلى أن تلك الصخرة أخذت منه مجهود يومين من الوساطة لتفادي الحرب بين بلدين حليفين. الخرائط العسكرية الإسبانية كانت تشير إلى أن الصخرة تابعة للمغرب لكن مصير السيادة عليها لايزال حتى اليوم غير محدد. وضعية لم تمنع في العام 2014 من إرسال المغرب اثنين وثلاثين فردا من القوات المساعدة إلى الجزيرة، باتفاق مع الحكومة الإسبانية، لمراقبة حركة الهجرة السرية وتهريب المخدرات. تلك كانت في البدء مهمة المجند إبراهيم في فيلم (ليلى، جزيرة المعدنوس).
في شهر أغسطس الماضي، اعتبرت جبهة البوليساريو "العملية التطهيرية" التي قامت بها السلطات المغربية بمنطقة الكركرات "خرقا لاتفاقية وقف إطلاق النار"، الموقعة بين الجانبين برعاية الأمم المتحدة في العام 1991، وطالبت المنظمة الدولية بالتدخل لـ "وقف هذا الانتهاك الصارخ واتخاذ الإجراءات الميدانية الكفيلة بالتطبيق الصارم للاتفاق، وبالتالي سحب الوجود المغربي من المنطقة المعنية".
منطقة الكركرات، التي تسمى محليا بقندهار وعرفت بازدهار عمليات التهريب خارج أية مراقبة عبرها، واحدة من بين إشكالات أفرزها اعتبار اتفاق إطلاق النار للحزام الرملي الذي شيده المغرب لوقف توغل مقاتلي جبهة البوليساريو داخل أراضيه خطا فاصلا بين الطرفين. كان هدف المغرب من ترك مساحات غير مأهولة بالسكان لما بعد الحاجز الأمني، بحدود خمسة كيلومترات، تسهيل مأمورية الجيش في مراقبة تحركات المقاتلين الصحراويين وتفادي التوغل في الأراضي الجزائرية أو الموريتانية المجاورة، والنتيجة أن الجبهة اعتبرت تلك المساحات كلها "أراضي محررة" كما فعلت في بئر لحلو وتيفاريتي. التدخل المغربي في الكركرات، حسب محللين، استهدف منع تكرار السيناريو نفسه، باعتبارها معبرا مروريا مهما لتجارته وعلاقته مع موريتانيا ودول إفريقيا الغربية، التي طلب قبل أيام الانضمام إلى مجموعتها الاقتصادية (سيدياو) في اختراق جديد بالقارة الإفريقية أياما قليلة على عودته للاتحاد الإفريقي، وهو ما دفعه للعمل على تعبيد وتهيئة الطريق الواصلة بين نقطتي الحدود المغربية الموريتانية، وأي سيطرة للبوليساريو على الأرض يهدد مصالحه تلك، ويحقق هدفا استراتيجيا للخصوم بمحاصرة المغرب جنوبا.
ستة أشهر بعد ذلك، جاء الانسحاب المغربي الأحادي الجانب من المنطقة استجابة لطلب من الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، تلا اتصالا تلقاه من العاهل المغربي نبه خلاله إلى "خطورة الوضع الأمني في منطقة الكركرات جراء استفزازات جبهة البوليساريو التي بدأت شهرا قبل عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي"، وفيه طالب بـ "اتخاذ الإجراءات العاجلة واللازمة لوضع حد لهذا الوضع غير المقبول، الذي يهدد بشكل جدي وقف إطلاق النار، ويعرض الاستقرار الإقليمي للخطر". انسحاب اعتبرته جبهة البوليساريو "ذرا للرماد" ومجرد " مناورة وإلهاء"، في وقت أكد فيه مراقبو الأمم المتحدة واقعة الانسحاب ورحبت به عدد من العواصم المؤثرة.
ستة أشهر كانت كافية لتتغير المواقع ومعه المواقف، وليطلب المغرب ضرورة العودة إلى وضع ما قبل أغسطس 2016، وتتحول معه الجبهة من موقع الضحية إلى موقع المتهم بعدم الامتثال لمقتضيات اتفاق وقف إطلاق النار، ما يسمح للمغرب في حال استمرار الوضع على ما هو عليه بالتدخل دفاعا عن النفس.
طبول الحرب عادت تدق بقوة في الجانبين بعد أن كانا على شفير الصدام، إذ لم تكن تفصل بين قواتهما غير مائة متر قبل الانسحاب المغربي. في المملكة حديث عن استدعاء جنود الاحتياط الذين سبق لهم العمل بالصحراء لتحيين معلوماتهم، وفي تندوف تخريج لدفعة جديدة من المقاتلين بمدرسة "عمي لمخيليل" ثمن خلاله الأمين العام للجبهة "روح الجاهزية والانضباط لدى المتخرجين"، مؤكدا أن "هذا التخرج يهدف إلى تقوية هذه القوات والتأهب للاحتمالات كافة".
يعتبر كثيرون أن ضبط النفس الذي أبداه المغرب طوال الأسابيع الأخيرة أمام سيل الاستعراض الإعلامي لمقاتلي البوليساريو، وهم ينشرون الصور والفيديوهات وهم على شواطئ المحيط الأطلسي أو للشاحنات العابرة للمنطقة بجوار نقاط تفتيش تابعة لهم، وهي مجردة من أعلام "دولة الاحتلال"، قد ينفذ إن استمر الوضع على ما هو عليه. وكان الاتصال الهاتفي بين العاهل المغربي والأمين العام الجديد للأمم المتحدة وما تلاه من انسحاب بادرة حسن نية في اتجاه الأخير، بعد المشاكل التي اعترت علاقة المملكة بالأمين العام السابق وهو يقدم توصيف الاحتلال للوجود المغربي بالصحراء. كما أن الاستجابة لطلب أنطونيو غوتيريس، العارف بخبايا الصراع، أعاد الملف إلى حظيرة الأمم المتحدة باعتبارها الفاعل الدولي الوحيد في الموضوع، وأظهر المغرب بموقع المحترم للشرعية ممثلا في المنظمة الدولية. وكلها مؤشرات تدل على أن القول بحتمية تدخل عسكري مغربي يعيد الأمور إلى نصابها في حال تعنت الجانب الآخر، فرضية ليس الأوان أوانها.
نشوب حرب بين الجانبين سيعرض الطرف البادئ بخرق اتفاق وقف إطلاق النار لعقوبات دولية، وسيمنح البوليساريو مبررا للمطالبة بتطبيق القانون الدولي الإنساني على النزاع، وهو ما يعني إخضاع المنطقة لرقابة وإدارة أممية خارج السيادة المغربية، بما يتوافق مع ما ظلت تنادي به كاستراتيجية استعملت خلالها مبررات حقوق الإنسان والثروات الطبيعية وغيرهما. كما أن اشتعال فتيل الحرب سيعيد قضية الصحراء لصدارة اهتمام المنظمة الأممية لدائرة الأضواء، وهي التي خفتت كثيرا بعد أن تحول الصراع هامشيا في أجندة الأمم المتحدة مقابل أماكن أكثر اشتعالا. الديبلوماسية المغربية تعي جيدا أن أي صراع مسلح سيضرب عرض الحائط كل المكتسبات التي تحققت في الشهور الأخيرة، وتوجت بالعودة للاتحاد الإفريقي. وضع العاجز على تغيير واقع الأمر المدعوم بقرارات واتفاقات لا يمنع من تكثيف الضغط على البوليساريو وداعميها لتحقيق مكاسب أكبر، قد تكون ردهات الأمم المتحدة مسرحا لها.
في السنة الماضية توترت العلاقة بين المملكة المغربية والأمين العام للأمم المتحدة بانكيمون، وقبلها رفضت الرباط زيارة مبعوثه الشخصي كريستوفر روس للصحراء، وطالبت أيضا عددا من أفراد البعثة بمغادرة الصحراء. واليوم يبدو أن المغرب عازم على فتح صفحة جديدة مع خلف بانكيمون وطي صفحات الخلاف، بعد تمكن الديبلوماسية المغربية من تحقيق اختراقات حقيقية بالقارة السمراء واتحادها الذي كان يشكل، غفي غياب المغرب، العباءة الشرعية التي كانت تسمح للبوليساريو بالتحرك بأريحية بالقارة وخارجها.
لكن نجاح المسعى المغربي يحتاج أيضا تقوية الجبهة الداخلية بشكل فعلي. واقع الحال يثبت أن الجبهة الداخلية تلك في طريقها للتفكك أكثر منه للتوحد؛ ففي الريف لا تهدأ الاحتجاجات ولا تنطفئ الفتنة حتى تشتعل مجددا، وهو ما بدأ ينتقل تدريجيا لمنطقة سوس التي بدأت شرارات الاحتجاج بها تشتعل لأسباب اقتصادية تبين مدى التهميش المسلط على مدنها، وعلى رأسها أغادير، بعد أن كانت واحدة من قاطرات الاقتصاد الوطني. العامل المشترك بين المنطقتين إحساس بـ"الحكرة" وانتماء أمازيغي لا يفتأ يعلن عن نفسه جهرا، وبأشكال قد تتخذ أبعادا لن تعدم وقودا لإشعالها، خصوصا مع استمرار اللعبة العبثية المتعلقة بتشكيل الحكومة، وهي مؤسسة دستورية لها وزنها في النسق السياسي المغربي، والعمل المتواصل على إضعاف الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية الموكول إليها مهمة تأطير الشارع، والطبيعة كما نعلم تخشى الفراغ.
منطقة المغرب الكبير في فوهة مدفع أنهى الدولة بليبيا ولجم "الثورة" بتونس، وصار يتحرش بالجزائر (ظهور تنظيم الدولة عبر العملية الإرهابية الفاشلة قبل أيام)، والمغرب غير مستثنى من عملية إعادة التوزيع التي لا تزال رحاها مشتعلة بالمشرق، وموعد وصولها للمغرب مسألة وقت ليس إلا. طبول الحرب التي تقرع مجرد إنذار...