من أبرز المشاكل التي تشوب العمل الوطني الفلسطيني هو أنه يأتي دائما على شكل ردات فعل وليس كفعل في حد ذاته يستبق ما قد يحصل، على عكس الاحتلال الإسرائيلي الذي يمرر سياساته وإجراءاته ضمن منظومة متكاملة ومعد لها مسبقا ومحسوبة التكاليف والعواقب.
فحكومات الاحتلال المتعاقبة لا تفرض أي واقع على الأرض إلا ضمن مخطط مسبق تضعه لجان مختصة تدرسه جيدا، وتضع مستويات الحكم في الكيان بصورة سيناريوهات فرضه والنتائج المتوقعة لذلك، والوسائل المقترحة لتلافي أي إشكاليات قد تعترضه بل وحلول مقترحة للتعامل معها حال وقوعها.
نقول هذا الكلام ونحن ندور منذ أشهر في حلقة مفرغة حيال موقف الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب بشأن نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان إلى مدينة القدس المحتلة، وكأننا نتعامل للمرة الأولى مع إدارة أمريكية من هذا النوع، بل وكأننا لم نعهد إدارات أمريكية منحازة بالكامل للاحتلال بما فيها إدارة أوباما الراحلة.
كم انتخابات أمريكية يجب علينا أن ننتظر لنتيقن أن دخول أي رئيس أمريكي إلى البيت الأبيض لا يمكن اعتماده بدون جدل لا يهدأ بين نخب سياسية يبتعد بنا عن جوهر الموضوع ويأخذنا بعيدا حيث يريد الاحتلال، فتجد طرفا يقلل من قيمة الخطوة ويرفض منحها أكبر من حجمها، بينما طرف آخر يعتبرها كارثة الكوارث التي حلت بنا وكأن المدينة المقدسة فُقدت للتو من أيدينا.
لا أعلم ما هو الأخطر، نقل سفارة إلى القدس أم تمرير بناء أكثر من 5 آلاف وحدة استيطانية ستلتهم آلاف الدونمات في الأيام الأولى من ولاية ترامب؟! أيهما الأخطر، نقل سفارة إلى القدس؟ أم استمرار النزيف اليوم من دماء شباب وشابات فلسطين على حواجز الاحتلال في القدس والضفة؟!
لا نقلل من قيمة الخطوة التي تشكّل حلقة جديدة في سلسلة عدوان مستمر من الإدارات الأمريكية المتعاقبة تضاف إلى سلسلة مواقف عدوانية تبنتها هذه الإدارات لصالح الاحتلال وسياساته، ولا نعطي الخطوة أكبر من حجمها، إذ إن ما يتعرض له البشر والحجر في القدس أكبر من مجرد نقل سفارة لدولة كبرى إليها.
ما يعنيني هنا تخيل المشهد لردود الأفعال الرسمية والشعبية في اليوم التالي لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، ما الذي سيحدث عندما يستفيق أهالي القدس على مشهد العلم الأمريكي يرفرف أعلى بناية السفارة الأمريكية في مدينتهم المحتلة؟! كيف ستكون ردة فعل المسوؤلين الفلسطينيين في رام الله؟! ونتحدث هنا عن ردود الأفعال لأننا لا زلنا للأسف عاجزين عن إحداث الفعل نفسه، بل وعاجزين عن الاتفاق على آليات لمواجهة مخططات الاحتلال واستراتيجياته.
في اليوم التالي لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة سيصدر بيان عن الرئاسة الفلسطينية يندد بالخطوة ويعتبرها ضربة لجهود السلام! وربما يتجرأ كتبة البيان قليلا ويلوحون بـ" غزوة دبلوماسية" جديدة في المحافل الدولية لمواجهة هذا القرار.
على مستوى الفصائل الفلسطينية سيصدر كل فصيل بيانا على حدة ينال من نهج السلطة السياسي ويحمّلها مسؤولية ذلك ويطالبها بإعلان انتهاء عملية التسوية، ويكيل الاتهامات للولايات المتحدة وانحيازها إلى جانب الكيان ويدعو "جماهير شعبنا للالتفاف حول خيار المقاومة".
عربيا لن يكون هناك أي موقف في اليوم التالي، لأن الرسمية العربية عودتنا على الانتظار عدة أيام قبل إصدار أي موقف بعد كل خطوة إسرائيلية أو أمريكية، ليكون الموقف دعوة إلى اجتماع "طارئ" بعد أسبوع أو أكثر للتباحث بشأن الموضوع وإصدار بيان شجب وإدانة! وهو حال لن يكون مختلفا لدى منظمة التعاون الإسلامي التي ستؤدي في نهاية المطاف الأداء ذاته.
ولا يمكن لنا حتى الآن استيعاب حالة الخور والخوف التي أصابت الرسمية العربية والإسلامية العاجزة حتى عن موقف سياسي موحد تواجه به الإدارة الأمريكية الجديدة وسياساتها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، نفهم مثلا أن تكون ثمة عوائق تمنع تشكّل موقف موحد لتركيا والسعودية وغيرها من الدول الإسلامية الكبيرة تجاه قضية إقليمية معينة كسوريا واليمن والعراق، ربما لاختلاف المصالح والتوجهات، لكن ما لا نفهمه حصول ذلك في قضية واضحة المعالم منذ عقود، فهل ثمة خلاف بين هذه الدول على توصيف قضية القدس وفلسطين؟!
لا أطرح هذا المشهد من زاوية سودواية بقدر ما هو توصيف لمشاهد سابقة في محطات مشابهة كان الأداء الرسمي العربي والوطني الفلسطيني "سلطة وفصائل" بذات الوتيرة، مواقف مكررة ومجردة من أي تأثير على الأرض حتى أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب.
ما لم تتحول هذه المواقف -الفلسطينية على الأقل- إلى آليات عمل حقيقية تترجم على الأرض كفعل نضالي مقاوم يحسب له الاحتلال ومن ينحاز له ألف حساب، لن تتوقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة بل والحكومات الغربية أيضا عن تقديم مزيد من الدعم لصالح هذا الكيان.
ما لم تتحول القدس إلى بؤرة مواجهة يومية بإسناد فلسطيني ميداني وسياسي متواصل وعلى كافة الصعد وضمن استراتيجية وطنية متكاملة، سيتحول المشهد لأن تكون واشنطن الدولة الأولى ولكن ليست الأخيرة التي ستنقل سفارتها إليها، بل ومنح الاحتلال كل ما يريده دون حسب أو رقيب.