يجري التأريخ للانتفاضة الفلسطينية الأولى بحادثة الشاحنة الإسرائيلية التي صدمت في الثامن من كانون أول عام 1987؛ حافلة تقل عددا من العمال الفلسطينيين من قطاع غزة استشهد أربعة منهم، ومع أن هذا هو التاريخ الرسمي للانتفاضة، إلا أنه لم يكن أبدا لحادثة واحدة أن تنشر تلك الملحمة الكبرى لتستغرق غزة والضفة، بذلك العنفوان المشهود، ولتلك السنوات الطويلة.
التاريخ الإنساني مليء بالأحداث الكبرى التي بدأت بحادثة صغيرة، ولعل من أشهرها الحرب العالمية الأولى التي نشبت إثر اغتيال طالب صربي لولي عهد النمسا فرانز فرديناند أثناء زيارته لسراييفو، إلا أن عشرات الحوادث التي لا تقل بشاعة عن حادثة الشاحنة الإسرائيلية لم تفجر انتفاضات على غرار الانتفاضة الأولى، واغتيال السفير الروسي في تركيا أخيرا لم يشعل حربا عالمية جديدة.
ليست الحوادث الصغيرة، التي تبدو أقرب للقشة التي تقصم ظهر البعير، بحسب المثل العربي الشهير، بأكثر من عامل صغير كان التاريخ ينتظره لتكتمل عوامل تشكل الحدث الكبير، ولكن يبدو أن الاجتماع الإنساني معقد ومتشابك إلى درجة لا يمكن فيها إحصاء العوامل اللازمة لتشكل الحدث، أو حتى رصدها وتخمين اتجاهاتها، وهذا الذي كان في الأمثلة المضروبة، وأخيرا في الثورات العربية.
إذا كانت فاتحة الثورات العربية في حادثة البوعزيزي في تونس، فإنها وحدها بالتأكيد لا تملك أي قدرة على تفسير انتشار تلك الثورات لتغطي المجال العربي كله على سعته، متخذة أشكالا متعددة من الفعل والظهور، ومستمرة حتى اللحظة، وقد قلبت بلدانا بأكملها، وجرّت إلى مجال العرب الإقليم والعالم، وزادت العالم غموضا، ووسمته بالتوتر الشديد، وألقت عليه احتمالات شتى.
إن فعلا صغيرا من شأنه أن يشعل ثورة، أو يحدث فوضى، أو يغير العالم. وإن فردا واحدا لا سلطان لأحد عليه، ولا ينتمي لأي تنظيم، وربما لم يتأثر بأي أحد، من شأنه أن يقلب أحوال شعب، أو حتى أحوال أمم وشعوب. وإن كثيرا من المسارات التي اتخذتها حركة التاريخ، لم يكن أبدا لأحد أن يتحكم فيها، أو يتحمل مسؤوليتها الكاملة، فقد كانت في النهاية نتيجة تضافر آلاف العوامل والعناصر والحوادث التي يستحيل رصدها وربطها ببعضها وتوقع اتجاهها.
تبدو حركة التاريخ العربية الجارية منذ بضع سنوات، من أعقد ما عرفه البشر أو يمكن أن يعرفوه، لأنها تستغرق أمة كبيرة، وهذه الأمة، التي تكثر فيها المشتركات، لا يجري عليها ظرف واحد يستغرقها كلها على نحو واحد، بل تتعدد الظروف فيها وتتباين على أبنائها، وتختلف مواقعها، ولكل موقع منها شروطه الخاصة بحسب أوضاعه الاجتماعية وتراكماته التاريخية.
وهذه الأمة تتراكم مشاكلها التاريخية منذ قرون، وتتعدد هذه المشاكل وتتداخل، وفيها تتعدد محاولات الناس ومقارباتهم وأفكارهم ورؤاهم، وقد انقطعت تجربتها الحضارية، بحكم دورة الزمن التي هي ليست أكثر من جملة عوامل تحكم على مسار أمة في النتيجة بالانقطاع المؤقت أو الدائم، أو بالعودة والاستئناف، وهذه الأمة إلى جانب ذلك جزء من هذا العالم، لا تنفصل عنه ولا ينفك عنها.
وإذا كان حدث صغير يشعل نارا تلتهم الجغرافيات الواسعة بملايين بشرها، لا يعدو أن يكون تعبيرا عن اكتمال آلاف العوامل المتضافرة، فإن أمة هذا حالها، لا يمكن أن تحسم خياراتها، وأن تعالج مشكلاتها، بمقاربة واحدة، ولا يمكنها وبعد أن أخذت تقلب أوضاعها أن تستقر إلا بعد تدافع تتنوع أشكاله ومظاهره بحسب السياقات الخاصة بكل موقع من مواقعها.
وهي وقد أخذت تقلب أوضاعها فعلا، وقد عمت الفوضى بعض أقطارها، وأدخلت الإقليم والعالم في حالة الغموض، فإنه لا يمكن التنبؤ بالأحداث الصغيرة التي يمكنها أن تغير المسارات، أو أن تعيد تشكيل الأحداث، أو أن تدخلنا فيما نرجو أو نكره.
ولا بد والحال كذلك، وبالنظر إلى تاريخ المشكلات وعمقها وتراكمها، وتعدد الفاعلين بتعدد أفكارهم وطموحاتهم، وتشابك العالم، وسيولة الحدث، والتحولات السريعة في انفتاح الفرص وانغلاقها؛ إلا أن يكون العنف واحدا من المقاربات المكروهة ولكنها حتمية، ولا بد وأن تخوض الأمة تجربتها كاملة، وأن تضرب بعضها في بعضها، وتضرب خياراتها في خياراتها، وأن تجرب كل ما لديها في وقت واحد، وهذه سمة التحولات الكبيرة والعميقة.
تحولات الأمم، وحركات التاريخ، لا تخضع لرغباتنا، وهو أمر لا يعني التسليم بحتمياتها، وإنما يعني فهمها وأخذ الموقع فيها والعمل للتأثير على مسارها، ودفع المقاربات والخيارات والأحداث التي نناقضها، بخياراتنا التي نؤمن بها.
وتحولات الأمم، وحركات التاريخ، لا يمكن أن تكون انعكاسا لقراءة نظرية من كتاب سابق، ولا يمكن أن ترتب أوضاعها كما يختار أحدنا طبقه من الـ (menu)، أو كما يؤثث بيته من الـ (catalog)، أو كما يترجم ما أشكل عليه من القاموس، فلا يمكن أن تتصرف أمة في تحولاتها بكل ما فيها من تناقضات، وبكل ما تعبر عنه من مشكلات، وكأنها حركة فرد واحد، مع أن الفرد الواحد، قد لا يحسم خياراته بتلك السهولة المتوهمة!
هذه الحركة سوف تأخذ مداها، وبدلا من هجاء أنفسنا فيها، فلننظر كيف لنا أن نؤثر فيها.
4
شارك
التعليقات (4)
أحسنت استاذ
الأربعاء، 04-01-201708:36 ص
اتفق معك كليا في ما قلته و الادهى انك وصعت الاصبع على الجرح. شكرا أستاذ وش الطيز النعسان.
شكرا
الثلاثاء، 03-01-201710:46 م
جميل
مراقب
الثلاثاء، 03-01-201707:03 م
ليست وجية في مطعم
مقال سابق .. ليست لعبة كرة قدم
متفائل
الثلاثاء، 03-01-201706:57 م
أحسنت.. تحولات الأمم، وحركات التاريخ، لا تخضع لرغباتنا، وهو أمر لا يعني التسليم بحتمياتها، وإنما يعني فهمها وأخذ الموقع فيها والعمل للتأثير على مسارها، ودفع المقاربات والخيارات والأحداث التي نناقضها، بخياراتنا التي نؤمن بها.