ما حدث في حلب ليس أمرا عابرا، ولا "نقطة تحول" فقط في الصراع السوري يرجّح كفّة طرف على آخر؛ بل هو منعرج على صعيد الحالة الاجتماعية والثقافية العربية عامة. ولعلّ أحد أبرز القضايا التي حازت على اهتمام الشارع العربي بصورة عامة، هي ما يمكن أن نطلق عليه "خيبة الأمل" بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
بالطبع، لم يكن التحالف الروسي-الإيراني لينتصر عسكريا، لو لم يحدث تحوّل كبير في الموقف التركي، بخاصة بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، والتفاهمات التركية-الروسية غير المعلنة التي كانت حلب -على الأغلب- ثمنا لها.
الصدمة السورية والشعبية العربية بموقف أردوغان لم تأتِ نتيجة التحوّل في المواقف التركية، بل بسبب سقف التوقعات الوهمي الذي يتّسم به العرب عموما. فمن كان يراقب الموقف التركي والأزمات المحيطة بالرئيس أردوغان -في الداخل والخارج، حتى أصبح هو نفسه محاصرا ومهددا من مختلف الجهات- كان سيدرك بأنّ الموقف التركي باتجاه التحول والتغيّر، حتى لو لم تقع محاولة الانقلاب الفاشلة، التي سرّعت في التغيير، وأعطته مدى أكبر.
التحول الذي حدث، أشار إليه باحث تركي مقرّب من أوساط الرئاسة هناك، قبل أشهر من محاولة الانقلاب (في محاضرة له في مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية)؛ إذ قال إنّ هناك عملية إعادة تقدير موقف تجري (حينها) في أروقة القرار والسياسة في تركيا، وشعورا بأنّ المقاربة السابقة لم تنجح، بل أضرت بالمصالح التركية بصورة ملموسة.
الدخول الروسي بهذا الثقل كان بمنزلة عملية "قلب الطاولة" في المشهد السوري، ثم إسقاط الطائرة الروسية، وعزلة تركيا في مواجهة المحور الروسي-الإيراني، وإدراك أردوغان مراوغة الغرب معه، وعدم جدية الحكومات العربية وصعوبة الرهان عليها، وضعف المعارضة السياسية السورية وتفكّكها. ثم جاءت محاولة الانقلاب العسكري لتعزز القناعات السابقة، وتؤشر على أنّ الخطر أصبح ملتفا حول عنق أردوغان نفسه، ولتعزز هواجسه تجاه الأجندة الغربية والأمريكية نحو تركيا.
لم يكن، ضمن هذه القراءة الواقعية، ممكنا لأردوغان أو أي رئيس تركي آخر، أن يغامر بالاستمرار في سياساته السابقة، في ضوء عزلة دولية وإقليمية من جهة، وهشاشة داخلية كبيرة من جهة ثانية.
ولأنّ القرار السياسي هو عملية ترتيب أولويات، فقد اختار أولوية مواجهة حركة فتح الله غولن في الداخل، ثم الأكراد، ما دفعه إلى عقد التفاهمات مع الروس، وحتى مع الأمريكيين، بخصوص ترتيب الأوضاع في حلب وريفها الشمالي، والعلاقة مع الأكراد في سوريا. بالرغم من كل ذلك، فإنّ الأزمة التركية لم تنته؛ إذ إنّ العلاقات الخارجية ما تزال مسكونة بالشكوك وعدم الثقة، والحالة الداخلية مرتبكة، والمواجهة مع الأكراد وتنظيم "داعش" مكلفة جدا.
لن يكون أردوغان، في النهاية، سوريا أو عربيا، أكثر من السوريين والعرب أنفسهم، ولن يقوم بعملية انتحارية في سوريا، ويخسر كل شيء. والأهمّ من هذا وذاك، أن أدواته الداخلية والخارجية ليست بالقوة الكافية لتحمل مواقفه السياسية.
لكن، ليس من المنطقي تحميل "الرجل" مسؤولية الانهيارات التي تحدث في المعارضة السورية، أو الزعم أنّ التحول في الموقف التركي كان العامل الوحيد في تفسير ما حدث في حلب؛ فهو وإن كان عاملا حاسما، لا يمكن عزله عن سياقه العام، ولا يمكن تطهير المعارضة السورية من الأخطاء التي ارتكبتها في حلب، وترتكبها في مناطق أخرى أيضا.
حتى اللحظة، وبالرغم من كل ما حدث، لو نظرت المعارضة السورية، شرقا وغربا، لن تجد موقفا أفضل من الموقف التركي، على الصعيد الإنساني والسياسي، وحتى في التعامل مع تداعيات أحداث حلب، فالموقف العربي أبعد ما يكون عن إنجاز أي شيء!