باتساع الفارق الزمني بيننا وبين لحظة اندلاع الثورة التونسية، تزداد فرص التحليل الهادئ والفهم العميق لما حصل في الشارع التونسي منذ بداياته، ثم كيف تحول إلى معادلات سياسية سارية إلى الآن.
قامت ثورة تونس ضد الظلم بمفهومه الشامل، السياسي متمثلا في الاستبداد والقمع، الاجتماعي متمثلا في التهميش وغياب العدالة، المادي متمثلا في سطوة البوليس وعنجهية النظام، أما الظلم المعنوي، وهو الأشد، فتجريد الشعب من مواطنته.
تعددت الأسباب والهدف واحد في البداية "شغل، حرية، كرامة وطنية"، ثم بتسارع الأحداث وتصاعد وتيرة القمع للاحتجاجات وسقوط مئات الشهداء والجرحى أصبح الشعار الرئيسي" الشعب يريد إسقاط النظام" وانتهى الأمر بالشعار المشهور "degage" أي ارحل.
شهدت تونس فترة صعبة بعد فرار "المخلوع" رأس النظام، ليس بسبب الفراغ وإنما لغياب الرؤية والخطة البديلة لدى الثوار. فكل ما حدث كان مفاجئا ومباغتا للجميع مما جعل جل الطبقة السياسية تعيش حالة من الذهول والارتباك ناهيك عن المحتجين الذين مثلوا قوة هدم للفساد ولكن لم يمتلكوا أدوات التغيير والبناء لاحقا.
من طرائف الثورة ودلائل ارتباك النخبة أن بعض الأحزاب التي كان مسموحا لها بالنشاط زمن الديكتاتورية اتجهت صباح 14جانفي لمبنى حزب التجمع الدستوري (الحزب الحاكم) للخروج في مسيرة موازية لمسيرات الثوار، ولكن بعد تضخم عدد المحتجين أمام وزارة الداخلية وبداية تململ النظام ورأسه، التحقوا بالاحتجاجات ورفعوا شعارات الثورة.
تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات مطالبة بحل الحزب الحاكم وإسقاط النظام، كانت الأجواء عفوية شبابية بامتياز. رغم الإرهاق والملاحقات الأمنية وروائح الغاز المسيطرة على تونس إلا أن الأحلام كانت أكبر وإرادة إنقاذ الوطن من عصابة "السراق" كانت قوية.
صور ومخطوطات وأشعار غطت الجدران خاصة ساحة القصبة التي عمّرها الثوار ليالي طويلة، أغاني وأهازيج، حلقات نقاش وتفكير، لا فرق بين تونسي وآخر إلا بمدى إخلاصه للثّورة وحبّه لتونس.
في هذه الأثناء أعلن الرئيس المؤقت فؤاد المبزع يوم 3 مارس 2011 عن إقالة محمد الغنوشي وتعيين الباجي قائد السبسي رئيسا لحكومة انتقالية تسهر على تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، كما ظهرت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. من هنا يمكن القول أنه وقع تحويل اللحظة الثورية إلى برنامج عمل سياسي في غفلة من شباب الثورة ورموزها.
كان بإمكان الثوار أبناء "الجديد" الأخذ بزمام الأمور ثانيا لو لم يتفرقوا حول القديم من أفكار وصراعات أيديولوجية وأطر تنظيمية إلخ.
انطلقت تونس في مسار سياسي على أنقاض جزء من القديم في جو عربي أصابه لقاح الربيع، الذي جعل موازين القوى الشعبية والإقليمية لصالح الحرية والتغيير في المنطقة، فأمّن ذلك لتجربتنا أن تتقدم ولو بخطى ثقيلة ومتعثرة إلى أن بلغت محطة انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011.
ومع بلوغ الانتخابات والتأكد من شفافيتها وديمقراطيتها وانتقال السلطة إلى جهة منتخبة، انتقلت الثورة إلى مؤسسات الدولة، وأصبح من مسؤولية المنتخبين الحرص على تحقيق أهداف الثورة ومطالبها بأدوات الدولة ووسائلها.
لم تخل التجربة من الأخطاء والتقصير إلى جانب تعدّد محاولات العرقلة والتعطيل، باعتبار أن المعادلة لم تُحسم نهائيا لحساب طرف على الآخر.
ولكن مثل ما استفادت الديمقراطية التونسية في بداياتها من مناخ انتشار الربيع، فقد استفادت لاحقا من أخطاء التجارب المجاورة وتداركت أمرها قبل فوات الأوان، فاستعاض الخصوم بطاولة الحوار عن ساحات الاعتصامات والصراع.
اعتبر جزء مهم من الشباب الثائر الرافض للعملية السياسية برمتها أن الحوار تنازلا وانتصار لأعداء الثورة، وكان ذلك بسبب وقوف هذا الشباب على أعتاب أيام اعتصام "القصبة 2" دون استطاعتهم استيعاب ظروف وعناصر المشهد المتجدّد يوميا والمتغير حسب ما يحيط بهم إقليميا ودوليا.
لقد كان الحوار الوطني انتصارا للثورة وأهدافها وحفاظا على جزء مهم من المكاسب السياسية، في الوقت الذي أُريد لأرض الربيع أن تتحول إلى أرض محروقة ونقمة على أصحابها.
كما كانت تجربة التوافق وليدة محن تجارب أخرى ونتيجة لحسن قراءة التاريخ والمعطيات. صحيح أن التوافق وصفة تونسية ولكن لم يكن نتيجة طبيعية لحالة من الهدوء الفكري والسكينة السياسية، أو غطاء سياسي لحماية بعض المصالح كما يدعي البعض، بقدر ما كان ضرورة وطنية، تَحقّق بمُوجبه الحد الأدنى من الاستقرار في محيط تعصف به رياح الخريف.
ما حدث في مصر واليمن وليبيا وما يحدث في حلب هذه الأيام يؤكد سلامة الخيار التونسي ويبين منطق موازين القوة وخطورة المعطى الإقليمي والدولي.
يبقى أن التجربة التونسية ما زالت في محك الاختبار، خاصة وقد تعلقت بها رهانات كبرى وتحديات عظيمة في ظل ظروف صعبة اقتصاديا واجتماعيا، عزوف الشباب والمرأة عن النشاط السياسي، وسعي محموم من بعض الجهات السياسية للعودة إلى مربع الصراع والاستقطاب الأيديولوجي "الأجوف".