منّ الله على حركة النهضة التونسية بفسحة من الحرية والاستقرار على عكس الأوضاع التي تعيش فيها بقية الحركات الإسلامية السياسية في العالم العربي، مما يمكنها من استقراء المشهد السياسي الداخلي والخارجي والتفكير في عديد القضايا الشائكة التي مثلت تحديات أمام الإسلاميين (تيارات الإسلام السياسي) داخل الدولة والمجتمع وعلى مستوى المفاهيم والأفكار.
إن هذه المنة الإلهية على إسلاميي تونس هي مسؤولية كبرى على عاتقهم من حيث أهمية التوفيق بين نجاح (نسبي) تجربة واقعية لمشاركة الإسلاميين في الحكم والتفكير النظري في عدة قضايا استشكلت على حركات إسلامية وتسببت في فشل أخرى أو في جعل بعض التجارب تعاني علل واضحة.
•حركة النهضة وضرورة التفكير[قضايا وآراء] (6)
يبدو أن حركة النهضة استطاعت أن تتجاوز الحدود التي رسمت لتيارات الإسلام السياسي مؤخرا في العالم العربي ونجحت في التأقلم مع بيئتها السياسية التي غلب على تاريخها الحديث العداء مع الإسلاميين ورفض الاعتراف بهم كطرف سياسي جدي.
ويبقى هذا النجاح نسبي ومؤقت إلى حين تستكمل التجربة التونسية حظوظها وتضع أوزارها.
لقد كانت الممارسة السياسية "النهضوية" متقدمة على تفكير غالبية الإسلاميين ومنهم جزء كبير من النهضويين أنفسهم مما تسبب في ارتباكات متكررة داخل جسم النهضة كلما تكررت الأزمات السياسية في تونس وكلما وجدت النهضة نفسها أمام تحديات تتعلق برؤيتها للدولة ولمشروعها السياسي والاجتماعي.
ولم تكن أسبقية الممارسة على الفكر داخل النهضة أمرا غريبا، لاعتبارات عديدة تمثل جزءا مهما من إشكاليات الحركة الإسلامية.
1/المشروع بين رؤية الانتلجنسيا الإسلامية وعموم المنتمين
دائما ما تكون أفعالنا ناتجة عن تمثلات ذهنية لمقولات فكرية أو فلسفية في شكلها العميق أو المبسط، حسب وعينا وادراكنا المختلف من شخص لآخر. كما تكون هذه التمثلات الذهنية محركا أساسيا لحاملها نحو إنجازها وتحقيقها.
تختلف رؤية النخبة الإسلامية للمشروع الإسلامي عن عموم المنتمين رغم ما نؤكده من ضبابية عديد المفاهيم واستشكالها على العقل الإسلامي إلى هذه اللحظة خاصة فيما يتعلق ب " الدولة " و " الحكم ".
ويمكن ملاحظة هذه الخلافات كلما طرحت مواضيع من جنس الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها أو الحريات الخاصة والعامة أو شكل الحكم الإسلامي وعمل الدولة.
" فهل عندما ترفع القوى الإسلامية شعارات الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، هي لا تقصد بالضرورة العودة إلى نظام الدولة الإسلامية التقليدية المحدودة السلطات بل تعني أسلمة الدولة الحديثة ، دولة التحكم والسيطرة الكاملة ؟! " (بشير موسى نافع ) .
لا تمثل الاختلافات عائقا اذا لم تتحول إلى قناعات راسخة أو إلى خلافات فكرية عميقة تتعدى حدود التفاصيل والسياسات اليومية لتبلغ الرؤى والسياسات العامة والكبرى .
لقد تجلى وعي الانتلجنسيا الإسلامية في تونس في ممارستها السياسية وديبلوماسيتها الخارجية التي حققت من خلالها مكاسب عجزت بعض القوى الإسلامية خارج تونس عن تحقيقها رغم شعبيتها الوافرة وامتداد نشاطها دون انقطاع .
ومع ذلك تعددت النيران الصديقة ترمي هذه النخبة دون تحديد بدائلها أو خياراتها في ظل واقع يرفض الشعارات والمقولات الفضفاضة ولا يعترف إلا بالمنجزات والأرقام .
2/جدلية التنظيم والسياسة
تشكو القوى الإسلامية صراعا مريرا بين عقلها السياسي والجهاز التنظيمي الذي تجلى منذ أن خرجت هذه القوى للنشاط العلني المعترف به. ورغم أن العمل التنظيمي في نشأته الإخوانية مع حسن البنا كان خاصا وغير تابع للجسم العلني (حوالي 1940 ) إلا انه تحول مع مرور الوقت ونوائب الدهر إلى ضرورة وجودية امتدت يداه لتشمل كل أبعاد المشروع الإسلامي وجوانبه .
ولكن هل تسع العلنية ومدنية الحزب ما تسعه السرية واكراهات الاستبداد ؟
تقول القاعدة أن الممارسة السياسية تتطلب عقلا سياسيا. فلا يمكن خوض غمار السياسة ومعركة الدولة الحديثة بمنطق تنظيمي أهم مقوماته "الانغلاق" في حين ان المعركة تستوجب شجاعة وانفتاحا وروح المغامرة .
لقد أصبحت التنظيمات داخل الحركات الإسلامية عبئا ثقيلا على المشروع الإسلامي السياسي حيث حولت من هذه الحركات والأحزاب إلى ما هو أشبه بتنظيمات طائفية عرقية أكثر منها مؤسسات مدنية عصرية. إلى جانب انه اثقل البديهة السياسية لدى نخبته أما بسبب شيوع منطقه أو تعطيله لميكانيزمات التحليل وآليات تنزيل الفعل السياسي الذي أدى إلى ما أدى اليه في مصر، والجميع يتذكر معركة الترشح للرئاسة مع أبو الفتوح الوجه الغير تنظيمي أو طريقة تسييرهم للدولة وعلاقة الأخيرة بالتنظيم، وأدى إلى ما أدى اليه في تونس من تراجع في الشعبية الانتخابية للنهضة، حيث تجلى المنطق التنظيمي في شكل إدارة الحزب منذ عودته أو في شكل تكوين القائمات الانتخابية وأيضا في شكل إدارة الحملة الانتخابية.
3/النهضة بعد مؤتمرها العاشر
لقد أعلن رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي في افتتاح المؤتمر العاشر عن ميلاد جديد للحزب والخروج من بوتقة الإسلام السياسي إلى شساعة الإسلام الديمقراطي.
لقد تميز المؤتمر العاشر لحركة النهضة بحضور رئيس الجمهورية الممثل للدولة أساسا ثم لتيار سياسي وفكري لطالما كان النقيض والضد لحركة النهضة منذ تأسيسها.
كما تميز المؤتمر بلوائح سياسية واقتصادية تمثل مقدمات لبرنامج عملي يحقق مكاسب للدولة والشعب.
يحسب لهذا الحزب وللرجل الأول فيه الحفاظ على وحدة هذا الجسم رغم حيويته وديناميته المتجددة، إلا أن خطوات الإصلاح التي انطلقت مع المؤتمر تتطلب جهدا كبيرا لاستكمالها فكريا وسياسيا وتنظيميا.
ويمكننا تقييم نتائج الإصلاح في الأخير من خلال درجة الوعي المدني والديمقراطي التي سيتسم بها خطاب وممارسة النهضاويين في جميع مستوياتهم التنظيمية. إذ صار لزاما تعميق وتكريس تطور الحزب وتجدده ورتق الفتق التواصلي والفكري بين أبناءه بما يؤهله للإجابة عن أسئلة الواقع وخدمة الناس عوض العيش في عالم اليوطوبيا.
يمكن الجزم بأن النهضة هي الحزب الوحيد المتماسك في المشهد السياسي التونسي كما أنها أهم داعم لمؤسسات الدولة في هذه المرحلة وهو ما يحمل قيادتها وأبناءها مسؤولية كبيرة أمام تجربة وطنية رائدة ونموذج ينير درب الوطنيين في العالم العربي والإسلامي.