كتاب عربي 21

في أصول المسألة النوبية!

سليم عزوز
1300x600
1300x600
"الغاوي" – كما قالت الشحرورة – "ينقط بطاقيته"، بيد أن عبد الفتاح السيسي يقدم "النقوط" على قاعدة: "من لحيته وافتله"، ومن أراضي النوبة ولحم الحي، بدأ المرحلة الأولى المتعثرة من مشروع المليون والنصف مليون فدان، فكانت الأزمة النوبية، التي طالعنا تداعياتها مؤخرا!

أهالي النوبة، كانوا قد وعدوا بالبدء في تنفيذ مشروع إعادة توطينهم من جديد حول بحيرة السد العالي، لكنهم فوجئوا بأن الأرض التي تقرر إنشاء "الدفعة الأولى" من القرى النوبية عليها، تم الاستحواذ عليها ضمن المشروع سالف الذكر، ليتم توزيع الأراضي على مصريين وأجانب، وعندما ثار النوبيون كان القول إنه سيراعي استفادة بعضهم عند توزيع هذه الأراضي على المستثمرين، مما أدخل الغش والتدليس على الناس، فماذا يريد النوبيون أكثر من أن يسري عليهم ما يسري على المستثمرين المصريين والأجانب، وتم الدفع بكيان مستحدث اسمه القبائل العربية ليندد بهذا الامتياز الذي اختصت به السلطة أهالي النوبة؟ مع أنهم لا يمثلون سوى أكثر من عشرة في المئة من سكان محافظة أسوان، بحسب ما أعلنه أحد النواب في برلمان الغبراء عن المحافظة، ومن قبائل أخرى، لنكون أمام حلقة جديدة من حلقات التضليل في هذا الملف، تستهدف إحداث الفتنة بين أهالي النوبة والآخرين، وفي ظل سلطة تمشي بين المواطنين بالنميمة!

قبل سبع سنوات، وبالتحديد في سنة 2009، كتبت مقالا حمل عنوان "النوبة وأساطير الأولين"، أشرت فيه إلى ما أحاط بالقضية النوبية من خزعبلات، بفعل فاعل، يهدف إلى التحلل من الالتزام بإعادة توطينهم من جديد حول البحيرة، وكان التشويه هو وسيلته لذلك، حد اتهام القوم في وطنيتهم، وإذا كانت أفراحهم تبدأ بالغناء "عائدون"، فإن هذا يستغل في الإيعاز بأنهم يريدون الاستقلال، وبناء مملكتهم النوبية المستقلة، ولا ريب فعندما تختزل الأوطان في ملف أمني، فإن من الطبيعي أن يصبح كل أصحاب المطالب خائنون للوطن. والرؤية الأمنية لا تعتمد التنوع ثراء، ولكنها تراه كارثة أمنية، فيجري رفع سيف الاتهام بالعمالة، للبدو في سيناء، وللنوبة في الجنوب، أو الذين يريدون العودة لجنوب مصر!

وعندما تبدأ السلطة الأمنية في إشهار سلاح الخيانة في وجه مكون من مكونات المجتمع، فإن هذا يكون للتغطية على تقصيرها، أو للفت الانتباه بعيدا عن جرائمها، أو التحلل من التزاماتها، وفي الحالة النوبية، فإنه يستغل لمنع النوبيين من إيصال رسالتهم للرأي العام بشكل صحيح، والتحريض ضدهم لتسهيل المهمة الأمنية!

أهالي النوبة، من أكثر من ضحوا من أجل مصر، فقد تعرضوا منذ 1902، لإغراق قراهم عند بناء خزانة أسوان، وعندما انتقلوا إلى أعلى تم تعلية السد فغرقت قراهم للمرة الثانية، فانتقلوا إلى أعلى فكانت التعلية التي أغرقت هذه القرى للمرة الثالثة، فلما بدأ بناء السد العالي كان التهجير، إلى مساكن بنيت بعيدا عن البحيرة، لم يراع فيها ذوق المواطن النوبي، فقد أسست كبيوت الريفيين، وإذا كان النوبي القديم روحه في الماء، فلهذا عاش النوبيون على ضفتي البحيرة، فهم شعب مسكون بحب النظافة، ولا يضع النوبي حظيرة المواشي داخل المنزل كما يفعل الريفيون، فاعتبروا المساكن الجديدة التي بنتها لهم الدولة سجونا، خفف من وطأتها فكرة أنها مؤقتة، فالوعد كان بإعادة بناء قراهم عندما يستقر منسوب المياه في البحيرة!

لقد تقاعست السلطة عن الوفاء بوعودها للنوبيين، فقد استقر منسوب المياه، وقررت الالتفاف على هذا الوعد، بتقديم امتيازات للنوبيين بعيدا عن فكرة حق العودة، فإذا كانت مواقع الصيد جرى تقسيمها بين الصيادين الذين تواجدوا في بحيرة السد العالي مبكرا، ومن أبناء المحافظات الأخرى، فقد جرى انتزاعها قبل 30 عاما ومنحها لعدد من النوبيين، الذين لم تكن لديهم خبرة في الصيد، فتم التلاعب بهم من قبل صغار الصيادين، ولهذا فعندما قال لي أحد الزملاء من أبناء محافظة أسوان إن هناك حالة حنق على النوبيين لأن السلطة تمنحهم امتيازات لا تمنحها لجيرانهم من أبناء المحافظة كنت مدركا لذلك، فبدا واضحا أن الحكومات المتعاقبة يمكن أن تحدث تمييزا لصالح النوبيين، بهدف تمييع قضية حق العودة!

وقد حدث أن وعد وزير الزراعة في سنة 2004، أمام البرلمان، ببناء عدد من القرى النوبية كمرحلة أولى حول البحيرة، وتبرعت منظمة الفاو بمبلغ (300) مليون دولار لهذا الغرض، لكن الوزير قام ببيع هذه الأراضي لرجال الأعمال في مزاد علني!

وبعد ذلك بأربع سنوات أعلن محافظ أسوان اللواء سمير يوسف عن البدء في بناء خمس قرى للنوبة كبداية، وتخصيص 10 آلاف فدان حولها للمشروعات الصغير لأبناء النوبة، كما خصص (200) مليون جنيها لهذا الغرض، ثم "لا حس ولا خبر" عن هذا الوعد!

في عهد الرئيس محمد مرسي، شكل أحد النوبيين منظمة "كتالة" وقال إنها ستستخدم العنف في مواجهة السلطة لانتزاع الحقوق النوبية، وإذا تم الدفع بمن قيل إنها ممثلة للنوبة في لجنة إعداد الدستور، فقد استقالت مع المستقلين احتجاجا على ما أسمته عدم قيام الدولة بضمان حق العودة، وكان واضحا أنه جرى استغلال أمني لبعض النوبيين، ضمن مخطط الانقلاب العسكري، وظني أن الرئيس ترك الملف السيناوي والنوبي في يد المؤسسة العسكرية، وهذا من الأخطاء لأنه جرى توظيفه في عملية الانقلاب ضمن أدوات الثورة المضادة!

ووثق بعض النوبيين في العهد الجديد، وظنوا أن "تحت القبة شيخ"، وأن "الحداية يمكن أن تلقي كتاكيت"، فكانت صدمتهم قوية، عندما اكتشفوا أن النظام الانقلابي في مصر لم يكن يريدهم إلا لمسافة السكة، فلما تمكن من الحكم، لم يجد نفسه مطالبا برد الحقوق لأصحابها بل جار على هذه الحقوق، لأن أراضي النوبة فيها الطمع، فهي من أجود الأراضي الزراعية، وإذا كان من سيئات السد العالي، أنه قضى على خصوبة الأراضي الزراعية، فقد كان الفيضان يأتي محملا بالطمي، لكن هذا الطمي تراكم على ضفتي البحيرة خلف السد!

وهذا الطمع بدأ في الربع قرن الأخير، عندما هرول رجال الأعمال للاستحواذ على ملايين الفدادين بثمن بخس ومن سلطة فاسدة، لكن قبل أن يتم اكتشاف هذه المنطقة كان القرار الأمني، الذي يرى في الجميع خونة، ما عدا أهل الحكم، ولا يجوز إعادة أهل النوبة إلى جنوب مصر، حتى لا يحتكوا بإخوانهم النوبيين في شمال السودان، ويصبح هذا خطرا على الأمن القومي المصري!

إنها أزمة الأوطان عندما تتحول إلى ملف أمني، ويراد ضبطها على مقاس "البيادة" الصماء، التي تحضر فتحصل العقول بحضورها على إجازة.  
0
التعليقات (0)

خبر عاجل