مجددًا عاد الحديث عن المصالحة، بمناسبة ما نشر منسوبًا لنائب جماعة الإخوان المسلمين "إبراهيم منير"، وقال الرجل إن كلامه فهم خطأ، ويبدو أنه اكتشف أن ما قاله بحاجة لمذكرة تفسيرية، فكان لا بد من أربعة لقاءات تلفزيونية، لتوضيح الأمر، ولم يكد يتم التسليم بما ورد في الشرح والتفسير، حتى بدأ الحديث عن تسوية سياسية ترعاها دولة خليجية، هي السعودية تحديدا.
حديث التسوية نشرته جريدة "الشروق" القاهرية منسوبًا لمصادر في المملكة، وكان يمكن أن نتعامل مع المنشور، على أنه فبركة صحفية، مثلت عرفًا للصحافة المصرية في السنوات الخمس الأخيرة، وربما يكون الهدف هو تمييع ذكرى الثورة في 25 يناير المقبل، فلم يعد يُجدي الآن أن يظهر القطب الإخواني "يوسف ندا"، ليعلن، كما في مرات سابقة، أنه تلقى اتصالات هاتفية على هاتفه الجوال، من ضباط في الجيش يبشرونه بقرب إسقاطهم للسيسي، ليمكن لحديث التسوية أن يقوم بالواجب هذه المرة!
بيد أنه حدث أن إعلاميا محسوبًا على الجماعة، أو على الأقل له مصادر داخلها، هو "أسامة جاويش" أكد على وجود التسوية كفكرة سعودية، فأعاد بما كتب الجدل من جديد!
هل العلاقات المصرية-السعودية تسمح بدور للقادة السعوديين في الأزمة المصرية، وهي تمر بأزمة حقيقية، يكفي أن نعلم أن سلطة الانقلاب في مصر التي أرسلت وزير خارجيتها ليقدم "واجب العزاء" في وفاة "شيمون بيريز"، امتنعت عن تقديم العزاء في وفاة "الأمير تركي بن عبد العزيز"، على نحو كاشف عن حدة الأزمة، وليس مقبولاً وفق الأعراف والتقاليد العربية التي ربما لا يعرفها السيسي!
قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، كتبت عن مصالحة أقرب إلى التسوية، يتبناها القوم في أنقرة، كشرط أخلاقي لإعادة العلاقات مع القاهرة، وبمعاونة سعودية في وقت أن كانت العلاقة بين المملكة والسيسي جيدة، وكانت المملكة تضغط على أردوغان، لكن تركيا جاءها ما يشغلها، والسعادة بالانقلاب ومباركته عبر الأذرع الإعلامية للسيسي، مثلت حاجزًا نفسيًا قد يجري تجاوزه في مرحلة قادمة، لكن الأجواء الآن بين القاهرة وأنقرة باردة، ولم تعد العلاقة المصرية-السعودية جيدة، بعد تصويت دولة السيسي في مجلس الأمن ضد القرار السعودي والانحياز للقرارين الروسي والفرنسي مع ما بينهما من تعارض، وسعي نظام السيسي للتقارب مع النظام العراقي، والحوثيين، وإيران، بل ومع الأسد أيضا، ما يعني أنه بات يمثل خطرًا على المصالح السعودية!
فإذا كانت هناك تسوية ترعاها السعودية، فمن المؤكد أن السيسي ليس طرفًا فيها، فقد تكون مع المشير طنطاوي، الذي خرج مؤخرًا من القمقم ومن التحرير إلى النوبة، وإن كان ليس معنى هذا أن من شروط هذه التسوية، تغييب السيسي تمامًا كما أنه لن يكون أبدًا من بنودها عودة مرسي، أو البحث عن بديل مدني، وهذا ليس معناه أن الإخوان وافقوا عليها، وفكرة التسوية قد بدأت مبكرًا في بداية الانقلاب، وكان الخلاف حول بنودها، لكن السيسي وبدفع إقليمي سلك طريق اللاعودة، فكانت المجازر، لأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق "مناماته" الأربعة بحكم مصر، وتحقيق المطلب الإقليمي بإنهاء فكرة أن تحكم مصر مدنيًا، لأن هذا يعني نجاح الثورة، وهم يرون أن نجاحهم خطر على عروشهم!
قيادات الإخوان في موقف لا يحسدون عليه، فليسوا مستعدين للقيام بثورة، أو أن يكونوا في طليعة ثورة جديدة، تكلفهم المزيد من الشهداء والضحايا، مع سلطة جربوا قدرتها على ارتكاب المذابح والقتل بدم بارد والتصفية الجسدية، فهم قد يميلون لمشهد 25 يناير، بأن يكونوا مشاركين في ثورة يشارك فيها الثوار من التيار المدني، الذي لا يزال يقف بعيدًا حيث لم تبرأ النفوس من كراهية الإخوان، وهو تيار يرى أن أي ثورة ستنتهي بالاحتكام لصناديق الانتخاب على نحو يمثل إعادة للعبة من جديد!
قيادات الجماعة لديها عقدة اسمها "المعتقلون في السجون"، ومنهم من يرى أن النجاح في إخراجهم بأي تنازل يقدم هو واجب الوقت، وفي فترة سابقة كنت أشعر أننا في حديثنا عن الشرعية وعودة الرئيس المنتخب بتنا عبئًا على الإخوان، وكان القول دائمًا "الناس بالداخل تعبت". فهل هذا صحيح؟!
الواقع أن الداخل الذي يتخذ شماعة، بات يمثل إشكالية لقادة الجماعة بالخارج، فهناك مشردون لا يبيتون في بيوتهم ولا يذهبون لأعمالهم لأنهم مطلوبون أمنيًا، ولم يعد العناء الذي تتكبده الأسر والنساء على وجه التحديد في زيارة المعتقلين يخفى على أحد؛ فقد شاهد العالم جانبًا منه بالصوت والصورة، كما أن المعتقلين أنفسهم يتعرضون لكل أنواع الإيذاء البدني، وإذا كان من الطبيعي أن يضعف الإنسان فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فإن القطاع العريض من المعتقلين وأسرهم لا يقبل التراجع مع كل هذا العنت، وهو ما يمثل تحد للقادة، إن شئت الدقة فقل إن من هم بالخارج مع توافر الحياة المريحة، هم الذين تعبوا، والتحدي أنه عندما تكون هناك تسوية فمن الطبيعي أن ينخفض معها سقف المطالب ودرجة الأماني، والثمن المدفوع باهظ، وهناك من يفضلون الموت وقوفًا على هذه النهاية الأليمة.
ورغم أن هناك تسوية كانت مبكرة، فإن قيادة الجماعة لم تشأ أن تصارح بها المشاة والأنصار، ولعله لهذا تتحول فكرة المصالحة إلى مناورة تستهدف جس النبض، وهناك شباب في الجماعة، لن يسمع أو يطيع، والمعنى أن القبول بالمصالحة أو التسوية، سيكون سببًا في انشقاق داخل التنظيم يذكر بانشقاق من أطلقوا على أنفسهم شباب محمد، لكن شباب محمد خرجوا من الجماعة، وهؤلاء لن يخرجوا منها، فسوف يطالبون الآخرين بمغادرتها غير مستأنسين لحديث.
الانقلاب العسكري رد الاعتبار لأفكار الراحل سيد قطب، فلم يعد اصطلاح القطبيين يزعج من يوصف به كما كان عليه الحال قبل وقوع الانقلاب، إن شئت فقل إن الخلاف سيكون على أشده بين معتنقي أفكار الثائر سيد قطب، والمصلح حسن الهضيبي، وسيكون صراع بين الماضي والحاضر، وبين الشيوخ والشباب، وليس كل الشباب يؤمنون بالتوجه الثوري، فمن بينهم من يعيش في كنف القادة ويؤمن بأن الإخوان جماعة إصلاحية، وأن ثورة يناير كانت جملة اعتراضية في تاريخ الجماعة.. وليس كذلك كل الشيوخ يؤمنون بمسلك حسن الهضيبي وعبد القادر عودة، ومن مكنوا بمنهجهم للعسكر من التنكيل بهم بعد حركة ضباط الجيش التي شارك الإخوان فيها سنة 1952!
لقد طلب الضابط الإخواني وعضو تنظيم الضباط الأحرار "كمال عبد الرؤوف" من الهضيبي أن يسمح له باعتقال كل أعضاء التنظيم، وينهي هذا الخيبة التي منيت بها مصر، لكن حديث العسكري كان مع قاض، يقلب الأمر، ويغوص في الأوراق، ويكتب الحيثيات قبل النطق بالحكم، فرفض أن يأذن له، وعلم عبد الرؤوف بأن القادم هو الأسوأ على يد هذه الطغمة المنفلتة من صغار الضباط، فهرب للسودان وترك الهضيبي يواجه مصيره سجنًا وتعذيبًا، وقد كان صمود الرجل مفاجأة، لكن كان أهم من الصمود ألا يتعرض للمحنة وقد كان هذا مطروحًا عليه وفضه.
الدكتور محمد مرسي، ليس من الشباب، ومع ذلك رفض طلبا مقدما من العسكر مشمولاً بالإهانة بالتنازل عن الحكم، وكان منذ الأيام الأولى للثورة ممن قادوا الاتجاه داخل الجماعة الإصلاحية لضرورة المشاركة فيها، ودفع ثمن هذا اعتقالاً في ليلة 28 يناير 2011. فالقصة ليست شبابا وشيوخا فقط!
ولعل السؤال المهم هنا هو: ماذا يمكن أن يتحقق للعسكر إذا قبل الإخوان جميعهم بالمصالحة أو التسوية؟
لقد كان هذا مهمًا عندما كانت الملايين تخرج للشوارع، وكان ليستخدم في الإيعاز بأن هذه المظاهرات وراء الأزمة الاقتصادية، وتراجع السياحة، وتراجع الاستثمار الأجنبي كذلك، لكن الآن المظاهرات لا تخرج بعيدًا عن الشوارع الجانبية والحواري الضيقة، والأزمة الاقتصادية على أشدها، ثم إن التيار المدني عاد لمعسكر المعارضة بعد التفريط في السيادة الوطنية على جزيرتي تيران وصنافير، وهناك فصيل خرج من تيار دعم الشرعية، فلم يعد ينظر للجماعة على أنها تمثل عنوان الثورة ضد الانقلاب، ولهذا أسباب عدة لا يتسع المقام لذكرها، ومنها أن الإخوان في الخارج لم يتصرفوا باعتبارهم حزبا حاكما يحتوي ويقرب، ولكنهم تعاملوا على أنهم تنظيم، يهتم بأمر أفراده فقط، ويتحرك بمفرده، كما أنهم تعاملوا على أنهم "أصحاب القضية" و"أولياء أمورها"، وأن الآخرين هم من التابعين غير أولي الإربة، فلم يشاركوهم في موضوع ولم يدعوهم إلى مفاوضات، "فبئس الوليمة تلك". وهؤلاء الآخرون لديهم مضارون ومطاردون، لن تشملهم التسوية، إذا حدثت!
المعنى أن المصالحة أو التسوية مع الإخوان لن تنهي أزمة العسكر في مصر، وقد ترفع الحرج عن آخرين يتخاذلون عن الثورة حتى لا يستفيد منها الإخوان، وهؤلاء على قلتهم لن تكون دماؤهم مستباحة، في حين أن السيسي يكافأ إقليميا ودوليا وإسرائيليا عندما يستبيح دماء الإخوان وأعراضهم!
والمعنى أيضًا، أن أي حديث عن تسوية أو مصالحة مع الإخوان لا يدعمها ضغط عربي أو دولي على أهل الحكم في مصر، ما هي إلا لغو كلام!
فلننتظر ما ستسفر عنه الأيام!
3
شارك
التعليقات (3)
مراد منصوري
السبت، 26-11-201611:16 م
شكرا لك يا أستاذ على هذا التحليل الموضوعي و كما عهناك تضرب في العظم
السيسي لاعب محترف أوهم خصومه بأنه غبي و اهبل حتى بدى لهم ان الانقلاب يترنح في حين أن هذا المترنح يخبط في حركاته التي بدت عشوائية و مثيرة للضحك يخبط كل ما بقي من ثورة أذهلت العالم يوما ما فيسقطه. و لم يستفق أصحاب هذه المقولة الا على نظام نيروني ينال دعما كبيرا من صناع القرار في العالم.
كل ما أظنه أن هذه المصالحة ما هي الا خطة لقطع آخر شريان في ثورة 25 يناير و سيتم قبر كلمة الاخوان المسلمين نهائيا. مصالحة يظن هؤلاء أنهم سينالون بها قسطا من العيش و قسطا من الحرية و هم لا يدرون أنهم ذاهبون الى حتفهم.
مصري
السبت، 26-11-201608:30 م
عزيزي الكاتب الكبير .. من الواضح أنك ترفض المصالحة ... و هذا حقك بالتأكيد ..لكن أحب أن أطمئنك بأن فكرة الثورة باتت مزعجة لدى الكثيرين ... و الدليل على ذلك هو رفض النزول للميدان مرة ثانية رغم تردي الأوضاع بشكل غير مسبوق .. أنتم فشلتم في تقديم بديل مقنع للشعب .. فما أسهل النقد و الثرثرة و المعارضة .. الشعوب العربية يا صديقي غير مؤهلة للمسار الديمقراطي .. و 30 يونيو شاهد على ذلك .. قبل الفعل الثوري .. لابد من إعداد بيئة حاضنة للتغيير .. و هذه البيئة لم تتشكل بعد .. حتى عل مستوى النخبة أحادية الرأي و التفكير . المصالحة الآن هي الحل إنقاذا للوطن و الشباب الذي ضيعتم مستقبله بمصطلحات جوفاء . المصالحة فعل شرعي و قانوني و أخلاقي .. و خلاف ذلك فأنتم تمارسون خديعة الشباب .الثورة كانت خطأ كبيرا لأنكم مجموعة من الدروايش الذين يجهلون قراءة الواقع . كفى كفى يرحكم الله
Ashraf Elsayed
السبت، 26-11-201604:00 م
مثلت عرفًا للصحافة المصرية في السنوات الخمس الأخيرة،
الصحيح السنوات الخمسة الاخيرة.
خمس سنوات
السنوات الخمسة