في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2017 يكون قد مر على تصريح بلفور المشؤوم مائة عام. بلفور هو وزير خارجية بريطانيا عام 1917، وهو الذي وجه رسالة باسم الحكومة البريطانية للثري الفرنسي روتشيلد أخبره فيها أن حكومة بريطانيا ستعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. لقد فرحت المنظمة الصهيونية العالمية بهذا التصريح، وأيقن العديد من اليهود أن الوطن القومي الخاص بهم سيتحقق وستكون لهم دولتهم الخاصة بهم. أما العرب فلم يعلموا عن الرسالة إلا بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا، والتي كشفت مخططات الحلفاء بشأن المشرق العربي. كان يظن العرب أن من أسموها بالصديقة بريطانيا ستقيم لهم مملكة متحدة في المشرق العربي، لكن الثورة البلشفية فاجأتهم باتفاقية سايكس بيكو التي جزأت بلاد الشام والعراق وبالتآمر على فلسطين وشعبها.
كان الفلسطينيون يحيون ذكرى تصريح بلفور كل عام، وكانوا يتحدثون عن المناسبة بمرارة وألم، وكانوا يغلظون الأيمان بأنهم سيستمرون في طريق المقاومة والنضال حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني. لكن القَسَم لم يصمد، وما أن قامت السلطة الفلسطينية حتى خبت أضواء إحياء الذكرى، وقلّت أعداد الناس التي تحاول بث الوعي بجرائم بلفور وبريطانيا ضد العرب والفلسطينيين. وهذا أمر منطقي لأن منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بالكيان الصهيوني، ومن يفعل ذلك يقبل تصريح بلفور ويؤيده ويثني عليه بخاصة أن بلفور قد نص على ضرورة احترام الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين. ولم تتوقف المنظمة عند الاعتراف بالكيان الصهيوني، بل أخذت تتعاون مع الصهاينة أمنيا، وأقامت أجهزة أمنية تدافع عن الأمن الصهيوني على حساب الأمن الفلسطيني، وانضمت السلطة الفلسطينية إلى كل القوى التي تلاحق المقاومة الفلسطينية.
قامت إسرائيل واعترفت بها الأمم المتحدة، وبدأت مرحلة البناء. ومنذ عام 1948 وإسرائيل تحقق التقدم تلو الآخر والإنجازات الكبيرة في مختلف المجالات. لقد ركزت على الزراعة بداية، وطورت أساليبها الزراعية ووسائلها إلى أن أصبحت على قمة الدول المتطورة في الهندسة الوراثية. وتعمدت التركيز على الصناعة لتصبح دولة صناعية تنشد الدول مساعدتها في التصنيع والتطوير. وأعطت المجال العسكري جزءا كبيرا من اهتمامها إلى أن طورت القنبلة النووية وأصبحت دولة نووية رادعة. واستطاعت على وجه السرعة أن تحقيق انتصارات عسكرية على العرب، وتمكنت من هزيمة ثلاثة جيوش عربية مجتمعة لتحتل مزيدا من الأراضي العربية.
ومن ذلك الحين وحتى الآن ونحن العرب نواجه إسرائيل بالخطابات الرنانة والزمجرات الفارغة، والتصريحات الخالية من المحتوى. لقد هددنا وتوعدنا، ووعدنا شعوبنا بانتصارات مؤزرة، ولم نحصد إلا الخيبة والهزائم. لقد انتصرت إسرائيل علينا بسهولة ولم يكن بإمكاننا أن نفعل إلا تحويل هزائمنا إلى انتصارات كاذبة. اعترف الفلسطينيون بإسرائيل، واندمجوا معها بعلاقات طيبة على كافة المستويات، وأخذوا ينسقون معها أمنيا على حساب الشعب الفلسطيني. شعب المقاومة تحول على يد قيادة منظمة التحرير إلى شعب يقاوم المقاومة. ولم يكن حال العرب أفضل. لقد ذهبت الأنظمة العربية إلى مدريد ضمن مفاوضات ثنائية مباشرة مع الصهاينة متنازلين بذلك عن الموقف الموحد، وعن الشعارات التي أطلقوها دجلا وكذبا، وانتهى أغلب العرب إلى إقامة علاقات طيبة مع الصهاينة على حساب شعب فلسطين. لقد سئم جمهور الأمة العربية كذب ودجل الحكام، ولم يكن اليوم الذي ينبثق فيه العربي الجديد بعيدا.
لم يسعف الفلسطيني والعربي سوى المقاومة التي نهضت في لبنان وفلسطين. انتصرت المقاومة اللبنانية على الصهاينة عام 2006، وأنهت بذلك الهزائم العربية المتكررة، وانبثق الجندي العربي الجديد الذي يأبى أن يأتيه الرصاص من خلفه، وأجبر الصهاينة على البحث عن أساليب قتالية جديدة ووضع نظرية أمنية جديدة تتناسب مع المعطيات الميدانية الجديدة. وربما ظنت إسرائيل ومعها العرب أن مهمتها العسكرية في غزة ستكون سهلة، ففوجئت عام 2008/2009 بقوة المقاومة الفلسطينية واستعدادها للحرب. لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أي إنجاز عسكري في غزة، وفشلت عامي 2012 و2014، وحرصت على قتل الناس وتهديم بيوتهم. أيقنت إسرائيل أن زمن انتصاراتها قد انتهى، وأن عهد هزائم العرب قد ولى.
أما النافذة الثانية التي يمكن أن يتنفس من خلالها الفلسطينيون فسياسية. ما زال هناك مجال أمام الفلسطينيين لإلحاق هزائم بإسرائيل على المستوى السياسي عالميا، لكن دون تحقيق حرية الفلسطينيين وانتزاع حقوقهم. ومن جملة النشاطات التي ولدت مع الذكرى المئوية لتصريح بلفور ما يقوم به فلسطينيون وبريطانيون في بريطانيا الآن. يقومون الآن بجمع تواقيع بريطانيين عساهم يجمعون مائة ألف توقيع ليدفعوا مجلس النواب البريطاني إلى فتح حوار حول القضية الفلسطينية. وهم يتوجهون أيضا إلى الشعب الفلسطيني لجمع ملايين التواقيع. نشاطات من هذا القبيل لا بد أن تثمر لأنها ترفع من درجة وعي الأوروبيين بالقضية الفلسطينية، وبالتالي يمكن أن تدفع الحكومات لتخفيف مغالاتها في معاداة الشعب الفلسطيني أو دعم الكيان الصهيوني. الأمل لا يغيب، وفقط أصحاب الإرادة الصلبة هم الذين يصنعونه ويصرون على استرداد حقوقهم.