نحن في مرحلة البحث عن الانتماء. فشل الدولة الوطنية لم يكن بسبب الطبقات السياسية الحاكمة.
هي أيضا كانت، وما زالت، تبحث عن الانتماء. الطوائف والمذاهب والإثنيات لم تجد وطنا يجمعها. كلها تعيش في ماض «تليد» تمجده ولا تعرفه. تقاتل للعودة إلى ما تجهله. تحوّله طقوسا كلها بكائيات وأناشيد حزينة. تحزن على بعض من ماتوا قبل مئات السنين. وتحتفل بقتل من تعرفه ويجمعها معه مصير واحد. مصيرنا مصائر. تغرق الأكثرية في شعور الأقلية. تخاف على هذا المصير. الخوف يدفعها إلى أن تستنجد بالخارج. خارج يجرب أسلحته الجديدة في قتلنا وتدمير مدننا وقرانا.
أما في زمن الهدنة، أو الزمن الضائع، فنستكمل التدمير بأنفسنا. السياسة عندنا فن التدمير وليست فن الممكن، أو فن تحقيق المصالح. هي عند البعض (داعش وأخواته المتكاثرة) فن إدارة التوحش للفوز بالجنة. وعند البعض الآخر فن النصب والاحتيال. المفاهيم التي سادت في القرن الماضي انقرضت. استوردناها من الغرب ودمرناها بأسلحته. مثقفون كبار درسوا في أوروبا وأميركا. اجتهدوا في تأليف عشرات الكتب لإقناعنا بالقيم الغربية. أصبحوا، باسم هذه القيم، الأشد عداوة لشعوبهم وللأهل. عادوا إلى جذورهم الإثنية والطائفية. تنكروا لكل ما كتبوا. الماركسي أصبح أميركي الهوى. القومي أصبح مذهبيا، العروبي أصبح قبليا. جميعهم تنكروا لأنفسهم وندموا على كتبوا. أصبحت دعوة الخارج للقضاء على الأقلية الحاكمة وعلى الاستبداد مطلبا ثقافيا (رياض الترك وميشال كيلو وبرهان غليون وصادق جلال العظم مثالا). الدول الاستعمارية التقليدية أصبحت المخلص من الديكتاتورية. وهناك آخرون ما زالوا يتصورون أن روسيا هي الاتحاد السوفياتي (نصير الشعوب المظلومة) وإيران اليوم ثورة داخل الإسلام، وتركيا أردوغان لا طموحات عثمانية لديها.
مثقفون نظموا مؤتمرات، وشكلوا «أجساما» (تعبير مترجم حرفيا عن بيانات كتبت بالإنكليزية والمقصود مجالس) لإدارة سورية بعد سقوط «الأسد وطغمته الحاكمة». بعد خمس سنوات على التدمير، لم يراجع أحد موقفه. الحروب تحتاج إلى مسلحين وإلى أدمغة. المسلحون على الجبهات والأدمغة تدير السياسة والديبلوماسية. وتنسج علاقات مع الدول، وتخطط للمستقبل. هذه وظيفتها. لكن المشكلة أن لا علاقة لهذا «الجسم» بالمسلحين على الأرض. لهؤلاء مرجعياتهم وإداراتهم الخارجية. تمدهم بالسلاح والمال وتخطط للمعارك. الأدمغة مفصولة عن «الجسم». كل ما تستطيعه إصدار بيانات بائسة لتسجيل موقف للتاريخ.
قبل أسبوع، أصدر مئة وخمسون مثقفا سوريا بيانا يستنكرون اتفاق الإمبرياليتين الروسية والأميركية. مئة وخمسون مثقفا، بينهم فلاسفة وأدباء وشعراء وفنانون، اكتشفوا أن النظام الدولي ساهم في «تحطيم الثورة السورية» مثله مثل «الفاشية الأسدية». وهاجموا «أوباما وبوتين ووكلاءهما وأشباههما من معدومي الإنسانية (الذين) اتخذوا قرارات تنتهك حقّنا في تقرير مصيرنا، أفرادا وجماعات ووطنا، من دون أن ننتخبهم أو تتوافر لنا أيّة آليّة لمساءلتهم. هو نظام غير ديموقراطي، معاد بشراسة للديموقراطيّة، ويجب أن يتغيّر».
بعيدا من ركاكة لغة البيان وأخطائها، يلاحظ القارئ مدى الطفولة في فهم السياسة الدولية. ومدى الاعتماد على الخارج، والفجيعة التي أصابت الموقعين المخذولين بتخلي «المجتمع الدولي عنهم»، هم الذين راهنوا على هذا «المجتمع» ليكتشفوا أنه خانهم، فطرحوا مطلبا بسيطا: تغيير النظام الدولي لتحقيق مطالبهم. من دون أن يلحظوا أنهم واقعون في أزمة انتماء، وانفصال عن الواقع، ويعيشون حالة إنكار دائم.