في التجارب الثورية التي مرت بها كثير من دول العالم شرقا وغربا كان العمل السياسي جزءا أساسيا ومكملا للعمل الميداني، بل هو الجزء الذي يبلور الحراك الميداني لتحقيق الأهداف الأساسية للثورة والثوار، وبالنسبة للثورة المصرية الحالية ضد الحكم العسكري الانقلابي فإن الحاجة ماسة لعمل سياسي قوي يواكب الحراك الميداني ويرفده بمزيد من الدعم، ويمنحه الرؤية الواضحة والأمل الصادق.
منذ وقوع الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، بل وقبل وقوعه رسميا بعدة أيام، تشكل التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب كمظلة سياسية وإدارة ميدانية للحراك الثوري ضد الانقلاب، وقد نجح التحالف بالفعل في عامه الأول في حشد وتعبئة الجماهير المناوئة للانقلاب في مظاهرات عارمة وصلت إلى حد السيطرة شبه التامة على مناطق بعينها في مصر كالصعيد الذي ظل لشهور عقب الانقلاب خارج سلطة حكم الانقلاب تقريبا، وإلى جانب القيادة الميدانية كان التحالف يخوض عملا سياسيا تمثل في تلك المفاوضات التي جرت مع وسطاء دوليين أثناء اعتصام رابعة وحتى بعد فض الاعتصام قبل أن تتوقف نهائيا لاحقا، وظل التحالف حتى الآن -رغم ضعفه- يمثل الغطاء السياسي للحراك الميداني عبر بيانه الأسبوعي الذي يحدد فيه عنوانا للحراك طيلة الأسبوع مع تذكير بموقف التحالف حيال أبرز قضايا الأسبوع.
دور الداخل والخارج
في إطار تنوع الأدوار يظل الداخل ( قيادات العمل الميداني في الداخل) هو صاحب القرار في إدارة المشهد الميداني، ويظل من واجب قيادات الخارج أن تسند هذا الحراك الميداني بتحركات سياسية وبرلمانية وقانونية وحقوقية وإعلامية، وخطط ومبادرات، وهذا ما تقوم به فعلا، تصيب أحيانا وتخطئ أحيانا، وهو أمر طبيعي، وليس مسموحا لأحد أن ينزع عن قيادات الخارج حقهم في هكذا تحركات بدعوى أن العصمة فقط بيد الداخل، فهؤلاء القادة والرموز ما خرجوا من مصر بحثا عن ملاذ آمن من القتل والحبس فقط ولا بحثا عن حياة هانئة في فنادق ومنتجعات الخ وإنما خرجوا ليواصلوا المعركة من جبهة أخرى تكمل جبهة الصامدين في الداخل والذين تمكنوا عبر صمودهم الأسطوري على مدى أكثر من 3 سنوات وبدعم من تحركات المقيمين في الخارج من إرباك سلطة الانقلاب وإفشالها، وإظهار عجزها وعدم قدرتها على إدارة شئون الحكم رغم كل ما يتوفر لها من إمكانيات محلية وإقليمية وحتى دولية لم يتوفر معشارها للرئيس محمد مرسي وإدارته.
بعد أكثر من 3 سنوات من المقاومة والصمود الأسطوري في وجه الآلة العسكرية والأمنية الجبارة لسلطة الانقلاب ليس من المعقول أن نكتفي بهذا الصمود ولا بمجرد إرباك سلطة الانقلاب ولكن نحتاج إلى حسم الأمر إنقاذا للوطن وللثورة وللشعب كله، وقد بات معلوما بالضرورة أن فريقا واحدا مهما كانت تنوعاته الداخلية ليس بقادر على هذا الحسم منفردا، من هنا كانت الضرورة الحتمية للبحث عن روافد جديدة للحراك الثوري تساعده على الحسم في ظل تراجع حقيقي لشعبية الحكم الانقلابي وانفضاض الكثير من أنصاره عنه، والروافد ليس مقصودا بها حركات بذاتها بل أطياف مجتمعية، وكل ما تفعله هذه الحوارات بين من ينتسبون لها في الخارج توفر المناخ المناسب لعودة بعضهم للحراك الميداني في الداخل وما مظاهرة يوم الأرض 15 أبريل 2016 عنا ببعيد.
محاولات لتقوية الصف
في هذا الإطار شهدت العديد من العواصم التي تحتضن مصريين رافضين للحكم العسكري ورش عمل بحضور شخصيات متنوعة في انتماءاتها السياسية والفكرية للبحث عن سبل للخلاص من هذا الحكم، وعن سبل التعاون بين شركاء الثورة الذين فرقتهم مؤامرات العسكر، وجرت حوارات بين بعض الأطراف التي انقطعت الاتصالات بينها من قبل، ونجحت تلك الورش والحوارات في استعادة قدر من الثقة بين بعض شركاء الثورة، وكان من ثمارها أن يلتقي بعض الليبراليين واليساريين وجها لوجه مع الإسلاميين، ولكن نتيجة حالة التسميم الإعلامي التي جرت سواء قبل أو بعد الانقلاب، ونتيجة غزارة الدماء التي سالت من أجل الحرية والكرامة كان من الصعب القفز سريعا إلى أعمال مشتركة، وكان الأمر يحتاج إلى إعادة بناء جسور الثقة بين قوى الثورة، وهو ما يجري حاليا، علما بان سلطة الانقلاب وأجهزتها المخابراتية والإعلامية لن تقف مكتوفة الأيدي بل هي تسعى دوما لتخريب أي محاولة نحو اصطفاف ثوري حقيقي.
يخطي البعض حين يتصور أن أي مبادرة تعني الحوار مع سلطة الانقلاب، وتقديم تنازلات لها، فهناك مبادرات يكون هدفها ترميم الصف الداخلي في كيان بعينه مثل مبادرة الشيخ القرضاوي مع الإخوان، أو مبادرات لتطوير الحراك الخارجي مثل تأسيس برلمان الخارج بهدف التواصل مع البرلمانات الدولية، أو مبادرات لبناء صف ثوري قوي، كما هو حال غالبية الأفكار والمبادرات التي طرحت على مدى العامين الماضيين ومنها مبادرة أو وثيقة بروكسل وبيان القاهرة الأول والثاني، وتأسيس المجلس الثوري، وكل هذه المبادرات لم تكن موجهة على الإطلاق إلى سلطة الانقلاب أو حتى داعميها في الخارج.
أخطاء ورشة واشنطن
كانت ورشة واشنطن (2-4 سبتمبر 2016) هي أحدث حلقات تلك الورش التي عقدت بالخارج بحضور ممثلين لأطياف ثورية مختلفة للبحث عن سبل للخلاص من الحكم العسكري، لم يكن اختيار الورشة تزلفا لواشنطن وحكومتها، بل كان ذلك نتيجة أن غالبية المشاركين في الورشة يقيمون في الولايات المتحدة ، شأن الورش التي عقدها مصريون في باريس أو لندن، أو إسطنبول، أو الدوحة، لكن هذه الورشة وقعت في بعض الأخطاء القاتلة أولهما المنهجية التي قامت عليها وهي تصدير نقاط الخلاف بهدف البحث عن حل لها وهو ما فجر الأزمة، على عكس منهجية الورش الأخرى التي جعلت الأولوية للبحث عن المشتركات، وثانيهما هو طبيعة المشاركين فيها؛ إذ إنها وعلى خلاف ورش سابقة، وعلى خلاف مرجعيات وثائقية سابقة، نصت على استبعاد أصحاب المواقف المتطرفة والمتشددة من مثل هذه الجلسات، عمدت إلى استضافة شخصيات متطرفة فكريا من غلاة العلمانيين لا يمثلون أي عمق شعبي، وقد نجحت تلك العناصر في جر بقية المشاركين لإثارة قضية الهوية، رغم أنها قضية مستقرة ومحسومة عبر حوار وطني ممتد تاريخيا وجغرافيا، تجسدت نصوصا في وثائق دستورية صاغتها قيادات ليبرالية بالأساس بدءا من دستور 1923 ومرورا بدساتير يوليو 1952 و2014، وكان على المشاركين في الورشة قطع النقاش حول هذه المسألة وعدم الرضوخ لابتزاز أولئك العلمانيين اكتفاء بما ورد في تلك الوثائق الدستورية التي حددت هوية مصر وحددت العلاقة بين الدين والدولة.
الخطأ الثالث الذي ظهر في المسودات المسربة، وتم تصحيحه في الوثيقة النهائية هو المتعلق بالشرعية (عودة الرئيس مرسي للحكم)، وحسنا أن نص البيان التمهيدي للورشة على احتفاظ كل فريق برؤيته في هذه المسالة، وقد أظهرت الحساسية الكبيرة تجاه قضية الشرعية عدم إمكان تجاوزها في أي وثيقة أو بيان يستهدف تجميع قوى الثورة، والحل بسيط وهو كما ورد في ديباجة البيان التمهيدي للوثيقة باحترام حق كل فريق في التعامل مع قضية الشرعية بالطريقة التي يراها، مع عرض أي قضايا خلافية مستقبلا على الشعب لحسمها.
أما الخطأ الرابع فهو تسريب نقاشات ومسودات الورشة للإعلام قبل نضجها، وهو ما أثار جدلا بعضه موضوعي وجاد وبعضه محض تربص ومكايدة، وذلك على خلاف الورش الأخرى التي نجحت حتى الآن في العمل بعيدا عن الأضواء حتى تنجز مهامها.
في كل الأحوال، تظل ورشة واشنطن وما نتج عنها مجرد اجتهاد قد يخطئ أو يصيب على طريق طويل، بحثا عن خلاص لهذا الوطن، ولشعبه المحتسب، ولثورته الموءودة، وللمجتهد في ديننا أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ، وإذا كان من حق الجميع قبول أو رفض هذه المبادرة كليا أو جزئيا عبر حوار موضوعي، فإن الواجب أيضا على الرافضين لهذا الاجتهاد تقديم اجتهاداتهم؛ لإنقاذ البلاد والعباد، بدلا من شهر سيوفهم في وجه كل مجتهد وتخوينه وتكفيره.