لا يضيف القرار الاتهامي الصادر في شأن جريمة تفجيري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس اللبنانية، الشيء الكثير إلى الصورة الراسخة لآليات عمل نظام حافظ وبشار الأسد وسلوكه وقيمه ونظرته إلى أسلوب التعامل مع خصومه في الداخل والخارج.
اللبنانيون الذين تعرّفوا إلى هذا النظام عن كثب منذ أربعين عاما عندما تدخلت قواته في حربهم الأهلية قبل أن يمنح العرب حافظ الأسد تفويضا سياسيا وعسكريا شاملا، لم يفاجأوا بالقرار الظني الصادر قبل يومين الذي أكد لهم المؤكد، من أن أجهزة الاستخبارات السورية خططت ونفذت التفجيرين اللذين ذهب ضحيتهما اكثر من خمسين قتيلا مدنيا، إضافة إلى مئات الجرحى، لدى خروجهم من المسجدين عقب صلاة الجمعة في 23 آب (أغسطس) 2013. أصابع الاتهام وُجّهت إلى النظام السوري قبل أن تجف دماء الضحايا وكان الاتهام صائبا.
ذريعة الجريمة، «الانتقام من خصوم النظام»، لا تشكل بدورها تبدّلا في أساليب القتل المعتمدة، حيث لا قيمة لحياة المدنيين ولا أهمية لمدى انحيازهم إلى الخصوم، ناهيك عن استسهال اللجوء إلى سفك الدماء سواء بالتفجير أو بالاغتيال ضد أي معارض أو خصم.
الجديد في القرار الاتهامي الذي يفصّل أدوار الضباط السوريين وعملائهم اللبنانيين، هو الصمت الذي قوبل به في لبنان. وباستثناء بعض التعليقات من السياسيين الطرابلسيين ومن الخصوم المعروفين لنظام بشار الأسد، ساد صمت المقابر ضفة «الممانعين» اللبنانيين الذين أعلنوا بصمتهم موافقتهم على ارتكاب أجهزة الاستخبارات السورية الجرائم المتمادية ضد مواطنيهم.
يقول «منطق» الممانعين اللبنانيين إنهم يعرفون سوء نظام الأسد وإجرامه وكل موبقاته ومثالبه، لكنهم لا يجدون مفرا من تأييده ودعمه. لماذا؟ «لأنه أفضل من داعش». هكذا يدفع الممانعون وأشباههم أنفسهم إلى الثنائية العدمية في حصر الخيار بين تنظيم ديني متطرف يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع، وبين نظام «وطني وتقدمي»... يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع. وهذا واحد من جملة طويلة من التشابهات بين الأسد و «داعش».
بيد أن الممانعين ليسوا على قدر السذاجة التي يريدون أن يتصورها الآخرون عنهم. بل إنهم يعلمون تمام العلم المآلات الكارثية التي يسيرون بعيون مفتوحة على اتساعها صوبها. ويعلمون أن انخراطهم في حرب النظام السوري على شعبه وعلى معارضيه من اللبنانيين، لا يقل عن فتح أبواب جهنم لألف عام من الحروب الأهلية والطائفية والجهوية التي دمرت مجتمعات المنطقة. ويعلمون أن التغيير الديموغرافي الذي ينفذونه جهارا نهارا في دمشق ومحيطها، على نحو لم يعد في حاجة إلى إثبات، لا يمكن أن يمر إلا على بحور من الدماء.
هؤلاء الممانعون الذين لا تنقصهم الوقاحة لاستغلال اسم فلسطين (الضابط المخطط لتفجيري طرابلس من «فرع فلسطين» في الاستخبارات السورية)، وادعاءات العلمانية وحماية الأقليات والتنوير ومحاربة الامبريالية، مقابل اتهام خصومهم بالظلامية والتكفير والعمالة للغرب، لم يقولوا كلمة واحدة في الاعتراض على سلوك حليفهم الممعن في اغتيال وقتل وتفجير مواطنيهم.
بصمتهم هذا يعلنون منظومة جديدة من الأولويات، حيث تقع مصلحة لبنان كدولة واللبنانيين كمجتمع في أسفل القائمة، وتسبقها ولاءات خارجية وطائفية تكرس انقسام هذه البلاد انقساما لا عودة عنه.
الحياة اللندنية