تقاتل تركيا في سوريا؛ ذودا عن مصالحها، وحفظا لأمنها القومي.. ثم لاعتبارات كثيرة، أوّلها أنّ الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها المحور الأسدي الإيراني في حق الشعب السوري تكفي لإثارة أي بشري فوق هذه المعمورة، فكيف الحال بالجيران وأهل الملّة.. وبالتاريخ والمصالح المتداخلة والمتشابكة والدائمة؟!
ويُفهم في العموم أن الجغرافيا تتحكّم بالقرارات السياسية لأيّ سلطة في أيّ بلد، فكيف الحال إذا كانت هذه الجغرافيا تحمل من معظم جهاتها وجنباتها، ما يكفي من مقومات الخطر والقلق والخصام والعداء، وليس العكس، مثلما هو الحال مع المثال التركي؟
وتلك في الإجمال محاولة لتدارك الشك بالقرار التركي وأصحاب ذلك القرار، إزاء الوضع السوري. ثم للنظر إلى بعض الخطوات المرتقبة، انطلاقا من تصريحات بن علي يلدريم، رئيس الحكومة التركية، من زاوية منطقية وباردة. أي لا تحتمل فتح النار والبدء بالردح العدائي، لكنها أيضا لا تحتمل غضّ النظر عمّا يمكن أن يكون خطيئة لا يمكن بلعها ولا استيعابها، ولا التغاضي عنها والبحث عن أسباب تخفيفية لها!
بن علي يلدريم عاد ليتحدّث عن خطوات تقاربية ستتخذ مع دمشق! من ضمن الأجندة الجديدة التي باشرتها أنقرة في الآونة الأخيرة.. أو بالأحرى التي عاودت اعتمادها انطلاقا من مبدأ «صفر مشاكل»، الذي نظّر له كثيرا وطويلا وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، قبل أن يتعرّض (المبدأ) لانتكاسات كبيرة، بدءا بانفجار الجوار السوري، مرورا بأزمة كسر الحصار عن غزّة، مع الإسرائيليين، وصولا إلى ما تلا إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الأول الماضي، وتدهور العلاقات مع موسكو بطريقة خطيرة!
المهم في تلك المراوحة هو الوضع السوري، ولا شيء آخر! مهم للعرب والمسلمين وللسوريين الذين دفعوا كل شيء فداء حريتهم وتوقهم للخروج من دولة المافيا إلى دولة القانون.. وبالتالي، صعب بكل المقاييس، (كلها!) افتراض إمكانية أن تعود أنقرة للحديث بتلك اللغة المبهمة والخفرة عن إمكانية تعديل موقفها من الأسد والطغمة التي يقودها! وصولا، إلى إشاعة خبر كبير يقول إن موسكو تحضّر لاستقبال لقاء يجمع رجب طيب أردوغان مع الأسد في حضور زعيم الكرملين!
في بعض الحالات، يكون حجم الكذبة هو السبب في عدم تصديقها! وقد يكون خبر القمّة من ذلك النوع، لكن ذلك لا يقلّل من حقيقة أن هذا الخبر صار يمكن إطلاقه ونشره في ضوء ما قاله ويقوله بن علي يلدريم! كما في ضوء الإشاعات الكثيرة التي تحكي عن لقاءات جمعت مسؤولين من الطرفَين، في بغداد وغير بغداد (؟!) وبالتالي، فإن السياق العام لكل ذلك المسار صار حمّال أوجه، ولم يعد حاسما ويقينيا كما كان من قبل!
ومرّة جديدة، تبدو أنقرة مُطالَبة بتوضيح ما يجري! وعدم الاكتفاء برمي أخبار ناقصة وغامضة من نوع الإصرار على «رحيل» الأسد، لكن مع قبول بقائه في «مرحلة انتقالية»! أو من نوع الشروع ميدانيا في عملية كبيرة في الشمال السوري تستند إلى قوّة «الجيش السوري الحر».
يَفهم كل المعنيين بالنزاع المصيري القائم في سوريا أن تركيا تبدو مضطرة إلى تعديل بعض مواقفها بما يتناسب ويتلاءم مع الذكاء الطبيعي، كما مع أحكام المصالح العليا للدولة التركية وناسها! لكن يصحّ (بتواضع جمّ!) تذكير صاحب القرار التركي بأن بشار الأسد ما عاد قادرا على ضمان أي شيء! ولا حتى على ضمان أمنه في معقله الدمشقي من دون «رعاية» إيران وأدواتها وحماية روسيا وطيرانها وأجهزتها! وبالتالي، لا ضرورة لمسرحية الانفتاح وتضخيم أشكاله، مثلما لم تكن هناك حاجة قبل الآن لتكبير الكلام المضادّ طالما أن الفعل لم يكن موازيا لذلك الكلام!
..لا ضرورة لأن يشمت بشار الأسد ومحوره، لا بالشعب السوري، ولا بمَن وثق بالأتراك وسياساتهم ونجاحهم وتجربتهم وصلابة موقفهم!!