في النظر إلى الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وفي مسائل كثيرة سواها، هناك طرق شتى. وإحدى هذه الطرق محاكمة الحدث من خلال القيم. في المعنى هذا ينتصب الفارق حادا، بل جذريا، ليس بالضرورة بين شخصي هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، لكنْ بين القيم التي يمثلها كل منهما أو يعد بتمثيلها.
والحال أن خطابي المرشحين في مؤتمريهما الحزبيين، وكذلك خطب سائر الخطباء وتعليقات باقي المعلقين، توقفت كلها عند الفارق بين التوكيد على الأمل والمستقبل في جبهة كلينتون الديموقراطية، والتوكيد على الكارثة التي تتطلب مخلصا في جبهة ترامب الجمهورية. وهذا إذا انطوى على بعض الإنشاء والتزويق، احتفظ بالكثير من الحقيقة.
فكلينتون، على رغم كل ما يؤخذ عليها، تمثل في هذه المعركة كل ما هو متقدم في الولايات المتحدة، وأهم علامات التقدم أن ذاك البلد العظيم مسرح لاشتغال التطورية ولاستعراض إنجازاتها. ذاك أنه من خلال كلينتون، تحظى المرأة اليوم بفرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية، تماما كما حظي الأسود، أو الأفرو أميركي، من خلال باراك أوباما، بفرصة الوصول إليها.
ولتقريب الصورة في ما خص القيم، يمكن القول إن المسار هذا يخالف نوعيا وجذريا المسار الذي رأيناه في بلدان ككوريا الشمالية أو سورية لجهة توريث رئاسة الجمهورية. صحيح أن المسارين يعملان في الطابق السياسي الأعلى من بناية الاجتماع الوطني، وأن نتائجهما لا تظهر بسرعة على جميع المعنيين في الصلب القاعدي للمجتمع، غير أن المسارين يؤسسان للعالم المحيط والعلاقات المحيطة سوابقَ قابلة للتوسيع وللاستلهام يصعب التراجع عنها. فإذا كان أحد المسارين يقطع طريقا طويلا، تدرجيا وملتويا، من العبودية إلى المساواة، فالمسار الآخر يقطع الطريق نفسه إنما في الاتجاه المعاكس.
ولقائل أن يقول إن انتصار أوباما أو كلينتون لا يعدل العلاقات المجتمعية جذريا لصالح السود أو النساء. لكن افتراضا كهذا يتراوح بين الطفلية والطوباوية، فضلا عن عدم اكتراثه بأن الوصول تنتجه عملية انتخابية حرة يشارك فيها الشعب بإرادته المحضة. فهذا الانتقال الشامل من حال إلى حال لا يتم على أرض الواقع، وقد سبق أن رأينا عشرات التجارب الشيوعية، التي غيرت جذريا و»أنهت التناقض بين علاقات الإنتاج وقواه»، لكنها لم تغير أوضاع النساء ولا أوضاع الأقليات الخاضعة للتمييز، إن لم يكن العكس قد حصل.
فالمسألة، في آخر المطاف، أن انتخاب أوباما، واحتمال انتخاب كلينتون، يمهدان على نحو أفضل لمواجهة المعيقات الأخرى التي تعطل المساواة والتقدم.
لكن أمريكا التي هي أعظم ما في عالمنا؛ لأنها تتيح ذلك، هي أيضا أسوأ ما فيه. فهي، كذلك، الارتداد على التقدم والعقل بقوة باتت توازي في اندفاعها قوة التقدم والعقل نفسه. وأمريكا السيئة هي التي يرمز إليها اليوم السيد ترامب الذي ينم صعوده عن مدى شراسة النكوص إلى ما قبل المساواة والتعدد، بل إلى ما قبل اشتغال الحجج والبراهين العقلية.
والحق أن التطورية، وعلى عكس ما توحي سذاجة بعض التطوريين الأمريكيين أنفسهم، لا تسير في خط مستقيم وصاعد. فهي ترتد وتنتكس، على النحو الذي تشير إليه الترامبية، فيما يتغذى ارتدادها على تضرر فئات بعينها من التقدم، أو عدم اشتمالها به.
وفي المعنى هذا، يكون توسيع رقعة المستفيدين أبرز العلاجات للترامبية الكارهة والكريهة. من هنا رأينا هيلاري كلينتون تستعير الكثير من برنامج بيرني ساندرز المتقدم، وتطرح أفكارا لإحياء البلدات والمناطق التي لم تستطع اللحاق بالعولمة، كذاك الوعد بأن تنفق على البنى التحتية ما لم يُنفق منذ دوايت أيزنهاور، حين أقام في الخمسينات شبكة الأوتوسترادات عبر الولايات، أو رصد عشرة بلايين دولار لمساعدة أصحاب الصناعة المعملية الصغيرة والمتآكلة على التحول إلى الإنتاج التقني والرقمي الرفيع.
ففي إشعار الشرائح الأعرض من السكان أنهم مستفيدون من المستقبل، يمكن إلحاق الهزيمة بالماضي، عبر مواجهات صعبة وغير مضمونة النتائج بالتأكيد بين أفضل أمريكا وأسوأها، وأفضل العالم وأسوأه.