بشكل منهجي متصاعد، كتبت لنا أياد آثمة نهاية الشهر الفضيل بالدماء والدموع في ربوع العالم الإسلامي، من ليبيا غربا وحتى بنغلاديش شرقا، وانتهاء بتدنيس ثاني الحرمين الشريفين بعملية إجرامية هي الأولى في تاريخه، وقد لا تكون الأخيرة، أريد لها أن تستهدف عموم المسلمين قبل أن تستهدف السعودية وحكَّامها، وتنذر بموسم حج قد أدخله بعضُهم ضمن بنك الأهداف في هذا الصراع الدموي الأحمق الدائر في قلب العالم الإسلامي.
في علم الإجرام الحديث عادة ما يُطرح سؤالان لا أكثر: ما هي الدوافع؟ ومن المستفيد؟ وحتى مع التسليم بوجود دوافع عند "القاعدة" أو "داعش" في استهداف السعودية، وقد استهدفتها المجاميع المتطرفة من قبل وبعنف أكبر، فإن محل استفادتهما من حادث المدينة غائب، بل مستبعَد بالضرورة، إلا إذا كان قادة التنظيمين من الحمق بمكان، أو إنما أرادوا الانتحار ونسف مشاريعهما بأنفسهم، بإهانة المسلمين عبر تدنيس هذا المكان المقدَّس بدماء الأبرياء في شهر الرحمة والعتق من النار، فلا سبيل لتسويق هذا الحادث الإجرامي تحت رايةٍ كاذبة اسمها "داعش" أو "القاعدة".
ثم إن تدافع الأحداث في المنطقة لم يحوِّل بعد المملكة إلى ساحة رئيسة للتنظيمين حتى يجازفا بتأليب عموم المسلمين عليهما باستهداف مكة أو المدينة، فيما تلتفت بنا نفس الأحداث إلى عقدة صراع وصدام تتفاقم بوتيرة هندسية بين قوَّتين إقليميتين: السعودية وإيران، قد منعتهما من الصدام المباشر موازينُ القوة القائمة، وخطوط حمراء وضعها لهما الحلفاء من الدول العظمى، لا تمنعهما بالضرورة من التناوش عن بُعد.
وإذا كانت السعودية قد اتِّهمت بالوقوف خلف تنشيط مفاجئ لخلايا إرهابية نائمة في بعض الأقاليم الإيرانية، فإن القطيعة التي حصلت بين البلدين بعد إعدام المعارض الشيعي نمر النمر، وحادث التدافع بمكة الذي ذهب ضحيته مئات الحجاج الإيرانيين من بينهم رسميون كثر، والاعتداء على البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران، وأخيرا تأكد غياب الإيرانيين عن موسم الحج القادم، قد هيّأت جميعها الساحة لحصول ما حصل بالمدينة المنورة، وتنذر بما هو أخطر قبل وأثناء موسم الحج القادم.
التهمة ليست موجَّهة بالضرورة لإيران، التي قد تكون لها مصلحة في التشويش على غريمتها، ولا لحزب الله الذي دخل زعيمُه في حملةٍ تحريضية منهجية ضد السعودية، بل إن الحادث قد يكون من تدبير الأطراف التي تؤجِّج منذ سنوات نار الفتنة المذهبية في المنطقة، وتكون قد فشلت حتى الآن في إخراجها عن السيطرة رغم المذابح الفظيعة التي طالت الطرفين في سورية والعراق، والتي قد تتقاطع مصالحها مع مصالح إيران، أو أنها إنما تكيد لإيران بقدر الكيد للسعودية، وتكيد للمسلمين سُنة وشيعة على السواء، لتضرب بالحادث عصفورين بحجر واحد، خاصة إذا ما ثبُت "توريط" إيران أو أحد أذرعها في الحادث، أو أن يكون من دبَّر الحادث قد أتقن صناعة الراية الكاذبة لحادثٍ لا يمكن أن يكون لا في صالح "داعش" و"القاعدة" ولا في صالح إيران وأذرعها، خاصة وأن التفجيرات الدموية التي طالت بعض العواصم الأوروبية قد كشفت لنا كيف يمكن اليوم للسحرة تدبير وصناعة "انتحاريين مزوَّرين" تحرِّكهم العقاقير المهلوسة، وتُفجَّر أحزمتهم الناسفة عن بُعد.