انتهت فترة السماح التي منحتها بعض القوى الإقليمية والدولية لتنظيم "داعش". الاستعدادات والترتيبات الجارية في الإقليم تشي بتحوّل جديد في طريقة التعاطي مع ملف "داعش"، لكن بالوقت نفسه، ربما يكون ذلك مؤشرا أيضا على وصول الأطراف الفاعلة في الصراع إلى تصور ما بخصوص وضع الإقليم برمته، وتفكيك أزماته، وتشابكات صراعاته مع البيئة الدولية.
إذا صحت هذه الفرضية، فإن ذلك يعني أن ظهور "داعش" وتمدده شكل واحدة من أخطر التكتيكات التي استخدمتها الأنظمة الإقليمية والقوى الدولية لقمع الربيع العربي واجتثاث فكرة الثورة لعقود طويلة قادمة، وفكرة أن "داعش" هي استجابة سنية "في العراق وسوريا" للتحدي الاجتثاثي الذي واجهته المجتمعات المحلية في المنطقة، أو نتيجة ضعف أداء المعارضات فيها، لم تكن سوى دعابة إعلامية المقصود منها تحميل المجتمعات السورية والعراقية والقوى الثورية فيهما وزر ظهور تنظيم الدولة وإشغالهما بالبحث عن الذرائع والمبررات التي تبرؤهم من هذا العار، بالمقدار نفسه الذي تبرئ فيه تلك القوى نفسها، على الأقل، من تهمة تهيئة الظروف المناسبة لظهور "داعش" عبر سكوتها عن المجزرة التي تعرضت لها شعوب المشرق العربي.
إلى ذلك، فإن المنطقة مقبلة على مشهد مختلف كلية عما سارت عليه الأمور طوال السنوات الخمس الماضية، مشهد سيصار فيه إلى ترجمة التصورات التي جرى بناؤها في مراكز القرار الدولي وسيتم موضعة ترتيباته على واقع من جغرافية وديمغرافية، تراب ودم، حدود وجهات، فإلى أي مدى سيكون ذلك متناسقا مع الوقائع التي أرستها سنوات الحرب السابقة وهل سيأتي انعكاسا لمواقع الأطراف وتثبيتا لوضعياتها أم متطابقا مع الصورة التي حلمت بها شعوب المنطقة، أوطان خالية من الاستبداد والفساد؟
من نافلة القول، إن اندماج المشكلة الأساسية في الإقليم، الثورة ضد الظلم، مع المشاريع الجيوسياسية الإقليمية والدولية، ينتج عنه إلغاء البعد المحلي للصراع وتحميله على متطلبات الأمن والاستقرار الدوليين، ما يجعل مخرجات الحلول التي تنتجها التسويات التي تتوصل لها البيئتان الإقليمية والدولية بعيدة كل البعد عن هموم وطموحات الشعوب وطبيعة قضاياها المحلية، ذلك أنه يصار إلى تنحية تلك القضايا إلى درجة متدنية في سلم الأولويات، ولا يتم لحظ حجم الكارثة التي طالت تلك الشعوب لإدراجها ضمن تفاصيل التسويات ذات الصياغة التقنية الصارمة.
أول ما تفعله المقاربات الدولية في علاج هذا النمط من الأزمات هو النظر للمعادلة العسكرية على الأرض ومواقع الأطراف فيها، ثم بعد ذلك الانطلاق مما تسميه أمرا واقعا لبناء الحلول، دون الاهتمام كيف جرت صناعة هذا الأمر الواقع، وما إذا كان فعلا يعكس الحقائق الموضوعية على الأرض مثل علاقة القوى المسيطرة بالجزء أو الأجزاء التي تسيطر عليها ومدى شرعية تلك السيطرة، الأمر الثاني النظر لخريطة القوى والمكونات التي تشكلها بالمنظار نفسه، بمعنى أنه يجري احتسابها على أنها أطراف متساوية في المسؤولية والحقوق، وأن التسوية بينها تجري على أساس القبول والتنازلات المتساوية، وهذا الأمر يستدعي إسقاط الحق في المطالبة بالمحاكمة على الجرائم التي تمت لتغيير الوقائع الديمغرافية والجغرافية والتي أوصلت الأمور إلى وضعية الأمر الواقع التي يتم اتخاذها كأساس للمفاوضات والتسويات!
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الانزياحات الجغرافية التي تحققت لصالح بعض الأطراف تصبح حقوقا مكتسبة، وأن على الطرف الآخر قبول هذه المعادلة لأنها تضمن له الاحتفاظ بما تبقى لديه، وتبعد عنه احتمالات الفناء التي كانت ستحصل لولا تدخل الإرادة الدولية ووقف النزاع.
هل هذه هي صورة اليوم التالي لأفول "داعش"؟ وبماذا تختلف عن صورة المشهد في اليوم الذي سبق صعود هذا التنظيم؟ الأكيد أنه في ذلك اليوم كانت الصورة أكثر وضوحا وشفافية، ولو جرى الاحتكام حينها إلى عناصر المشهد في تلك الصورة لكانت الحلول أقل تعقيدا بكثير، حينذاك كانت الصورة تنطوي على عنصرين اثنين، شعوب تطالب بتغيير أنظمتها الفاسدة والمستبدة، وأنظمة تتجاوز كل حدود المعقول في سفك الدماء والتعامل اللا إنساني مع مطالب تلك الشعوب، لكن بساطة تلك الصورة وتعقيداتها لم تكن كافية لإغراء مراكز القوى الإقليمية والدولية للتدخل، ولو تحت شعار "مبدأ مسؤولية الحماية الجماعية" الذي شرعته الأمم المتحدة، فلم يكن ثمة ما يضمن حصول تلك المراكز على منافع استراتيجية، ذلك أن حرية الشعوب وحصولها على حقها في تقرير مصيرها شعار لا يمكن ترجمته لمصالح في اليد.
اليوم التالي لأفول "داعش" سيكون تاريخا مفصليا في مصير الإقليم ومكونات مهمة فيه، والغريب أن تلك المكونات دفعت الثمن قبل ظهور "داعش"، ومع ظهورها وموعودة بالاستمرار في دفع الأثمان بعد أفولها، وكل ما ارتكب بحق تلك المكونات من جرائم تطهير عرقي وتفريغ ديمغرافي سيجري تحميله على جريمتها المزعومة "البيئة الحاضنة لداعش".