مقالات مختارة

وهم تل أبيب الأوروبي

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
أعرب بعض الإسرائيليين عن رضاهم حينما تعرضت تل أبيب للهجوم. لم يسبق أن كانت الهوة بينها وبين بقية إسرائيل بهذا الاتساع.
 
خلال الساعات التي أعقبت هجوم الأربعاء في تل أبيب، عندما فتح فلسطينيان مسلحان النار وقتلا أربعة إسرائيليين في أحد المقاهي، انتشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير حول الاحتفالات التي جرت في المدن والبلدات الفلسطينية من غزة إلى بيت لحم، وحتى في داخل القدس الشرقية. ليس واضحا كم كان عدد الذين شاركوا في هذه التظاهرات العفوية التي أعرب المشاركون فيها عن دعمهم لأعمال القتل، ولكنها كانت كافية لإثارة ما كان متوقعا من تنديدات ومن ردود فعل مشمئزة من قبل كثير من السياسيين والمعلقين الإسرائيليين.  
 
ما لم يكن متوقعا هو التعليقات المعبرة عن الابتهاج والصادرة عن كثير من الإسرائيليين اليمينيين والتي نشروها عبر حساباتهم الخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي.
 
كتب أحد النشطاء اليمينيين يقول: "أهم شيء هو أن الهجوم وقع في تل أبيب. يا للبهجة". وكتب آخرون تعليقات مشابهة، وكذلك لم تخجل محررة "موقع البهجة" من نشر مقطع فيديو دافعت فيها عن آرائها قائلة: "تل أبيب نالت ما تستحق".
 
يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تكون مضللة، ولذلك فإن من الصعوبة بمكان تقدير عدد الإسرائيليين الذين يشاطرون هؤلاء في مشاعرهم الانتقامية تجاه تل أبيب، إلا أنه ما من شك في أن ذلك مؤشر على الكيفية التي ينظر بها كثير من الإسرائيليين إلى "دولة تل أبيب"، كما يطلق عليها من حين لآخر. فهم يرونها مدينة انفصلت عن المجتمع الإسرائيلي العام، وتخلت عن القيم اليهودية، وحتى نأت بنفسها عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تاركة الإسرائيليين الآخرين ليتحملوا العبء والمعاناة.
 
والحقيقة هي أن مدينة تل أبيب أبعد ما تكون عن التمتع بالحصانة من تداعيات الصراع. فمنذ عام 1967 وحتى الآن استهدفت المدينة بالهجمات والتفجيرات، بما في ذلك تفجيرات انتحارية وقعت أثناء الانتفاضة الثانية. ومع ذلك، ومن الناحية السياسية، تختلف تل أبيب اختلافا كبيرا عن بقية إسرائيل. ففي الانتخابات العامة الأخيرة حصلت الأحزاب اليسارية الثلاثة – العمل وميريتز والقائمة الموحدة – على الأغلبية المطلقة بعد أن فازت بأكثر من خمسين بالمائة في داخل المدينة. أما الأحزاب الوسطية الأخرى مثل حزب "ييش أتيد" الذي يترأسه يائير لابيد فحصل على 18 بالمائة.
 
في حيفا، ورغم وجود كتلة سكانية فلسطينية كبيرة، لم تحصل الأحزاب اليسارية الثلاثة الرائدة سوى على 38 بالمائة من الأصوات. وأما في القدس، وهي المدينة الأكبر في إسرائيل والتي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، فلم تحصل نفس هذه الأحزاب على أكثر من 15 بالمائة بينما حصلت الأحزاب الوسطية على 11 بالمائة. لم يحدث من قبل أن كانت الهوة بين تل أبيب وبقية إسرائيل بهذا الاتساع.
 
ولكن التصويت لا يعدو كونه جانبا واحد فقط من القصة. في الأسبوع الماضي شارك أكثر من 150 ألف إسرائيلي في مسيرة المهرجان السنوي التي ينظمها اللواطيون والسحاقيات في تل أبيب والتي غدت رمزا على انفتاح المدينة وتسامحها، وخاصة إذا ما قورنت بالمسيرة المشابهة التي نظمت في العام الماضي داخل مدينة القدس والتي تعرض أحد المشاركين فيها للطعن حتى الموت على يد متطرف إسرائيلي من المتدينين المتشددين.
 
قد تنظر حكومة إسرائيل اليمينية بعين الشك والريبة إلى تل أبيب "اليسارية"، ولكنها تعلمت كيف تستخدم أو تستغل صورتها الليبرالية، فالحكومة نفسها تكفلت بنفقات سفر وإقامة ما يزيد عن خمسين صحفيا لتغطية وقائع مهرجان ومسيرة اللواطيين والسحاقيات، وذلك سعيا منها لتعزيز صورة إسرائيل بكونها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". ولم يكن عجبا إذ ذاك أن يصف بعض نشطاء المثليين مسيرة المهرجان بأنها "طلاء وردي" يسعى من خلاله إلى صرف الأنظار عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية.
 
ليست تلك فقط لعبة من الصور والانطباعات. عندما انهال ما يقرب من عشرة عناصر أمن إسرائيليين متخفين بلباس مدني على مواطن إسرائيلي فلسطيني بالقرب من سوبرماركت في تل أبيب حيث يعمل، وذلك لمجرد أنه رفض إظهار بطاقة الهوية الخاصة به، لم يتردد العاملون في السوبرماركت – وهم في الأغلب من اليهود – في مواجهة عناصر الأمن دفاعا عن زميلهم الفلسطيني وتضامنا معه.
 
ولعله لم يكن من باب المصادفة أن المسلحين الفلسطينيين اللذين قاما بالهجوم يوم الأربعاء ألقي القبض عليهما بدلا من أن يعدما، وذلك على النقيض مما كان عليه الحال في بعض الهجمات التي وقعت في القدس وفي غيرها من الأماكن خلال الشهور الماضية.
 
بل إن عمدة تل أبيب، رون هولداي، لم يخش أن يربط الهجوم بالأوضاع في الضفة الغربية. وقال في تصريح للإذاعة الإسرائيلية: "لا يمكنك أن تحتجز الناس في وضع تفرض عليهم فيه الاحتلال، ثم تتوقع منهم أن يخلصوا إلى أن كل شيء على ما يرام". ولقد جر عليه هذا التصريح انتقادات لاذعة من قبل السياسيين اليمينيين.
 
هذه الغربة بين تل أبيب وبقية إسرائيل لها جذور عميقة. فعلى النقيض من القدس، تل أبيب مدينة جديدة، ولا توجد فيها أماكن مقدسة، ولا ترتكز على تاريخ يهودي موغل في القدم. إنها أبرز تجليات الصهيونية العلمانية.
 
في الصراع المستمر على هوية إسرائيل باتت تل أبيب تمثل الهوية الإسرائيلية في مقابل الهوية اليهودية. وذهب بعض العلماء إلى تعريف ذلك على أنه صراع بين العالمية والمحلية أو بين الشمولية والجزئية - بين الديمقراطية الإسرائيلية والإثنية اليهودية. قد يكون الواقع الإسرائيلي أكثر تعقيدا من هذه المصطلحات التبسيطية، ولكن أيا كان التعريف الذي يضفى عليها، لقد بات واضحا أن تل أبيب تخسر اليمين.
 
ولعل تل أبيب، وفي تحد لما يجري خارجها من تفاعلات، تزيد عن علم من انسلاخها عن بقية إسرائيل. كثيرون في تل أبيب يرون مدينتهم جزءا من الغرب، جزءا من أوروبا، بينما يعتبر الناس فيما تبقى من إسرائيل، سواء كانوا يهودا أو مسلمين، أنهم ينتمون إلى الشرق الأوسط، بما يتسم به من حمية وعصبية.
 
في رمزية لا تخلو من المفارقة، يمثل نفس المكان الذي وقع فيه الهجوم الدموي يوم الأربعاء هذا التوجه. فمجمع التسوق سارونا ماركت أقيم على أطلال مستعمرة زراعية كانت قد أنشأتها طائفة من الألمان البروتستانت (انتظارا لعودة المسيح المخلص) في أواخر القرن التاسع عشر. ونظرا لأن معظم المقيمين في المستعمرة الزراعية كانوا من المتعاطفين مع النظام النازي فقد طردهم البريطانيون أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد حرب عام 1948 حُولت المنازل المبنية على الطراز الألماني إلى مكاتب حكومية لاستخدام دولة إسرائيل الناشئة حديثا.
 
وقبل عقد تقريبا، قررت بلدية تل أبيب استثمار ملايين الدولارات في صيانة وترميم هذه المباني والمحافظة عليها، بل لقد تجشمت نقلها عشرات الأمتار باستخدام سكك خاصة حتى لا ينالها التلف أو الضرر.
 
لقد كان بالفعل قرارا غريبا، وخاصة أن تل أبيب عهد عنها تناسي وإهمال ماضيها الفلسطيني بينما تبدي اهتماما مبالغا فيه بمبان لا تحمل أي سمة معمارية خاصة، كما لا تحمل من الذكريات ما يبعث على السعادة بسبب ارتباطها تاريخيا بالحقبة النازية. لعل الفائدة الواحدة التي ترجى منها هي أنها تمثل إرثا أوروبيا، وهو الإرث الذي يعطي انطباعا بأن المدينة نائية عن الشرق الأوسط بما فيه من هرج ومرج، ومثل هذا النأي هو بالضبط ما أرادته تل أبيب وما ترغب في تبنيه.
 
إلا أن تل أبيب ليست جزءا من أوروبا. بل هي جزء لا يتجزأ من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الدموي. من المؤكد أن المسلحين الفلسطينيين لم يكونا يعرفان شيئا عن تاريخ هذا المجمع التسويقي، ولكنهما فضلا مهاجمته بدلا من مهاجمة وزارة الدفاع والمقر الرئيسي للجيش الإسرائيلي اللذين يقعان في الجهة المقابلة من الشارع، على مسافة تقل عن مائتي متر من الموقع الذي حصل فيه إطلاق النيران.
 
يبدو مجمع التسوق المنشأ على الطراز الأوروبي أبعد ما يكون عن الواقع المعاش في الضفة الغربية التي تقع على مسافة ما يقرب من 70 كيلومترا منه، ولعله وقع عليه الاختيار لهذا السبب بالذات.
 
من المستبعد أن يؤدي هذا الهجوم إلى أن تنفض تل أبيب عنها وهمها الأوروبي. فبعد يوم واحد من حادثة إطلاق النار استعادت المدينة هدوءها وعادت المقاهي لتكتظ بروادها كما كان عليه الحال من قبل. لو أن سكان تل أبيب استُفتوا لصوتوا بالإجماع لصالح الانسحاب العسكري الإسرائيلي من الضفة الغربية. ولكن تل أبيب باتت منقطعة جدا عن بقية إسرائيل لدرجة أنها يئست حتى من بذل الجهد لتغيير مسار السياسة الإسرائيلية. ولذلك، فهي تفضل العودة إلى الوضع الاعتيادي، والعودة إلى الاعتقاد بأنها مدينة أوروبية قدر لها أن تكون موجودة داخل الشرق الأوسط. 
0
التعليقات (0)

خبر عاجل