لا تزال أحداث ما بعد ثورة يناير تكشف الجديد من السوءات داخل المجتمع المصري، سواء على مستواه الشعبي أو النخبوي أو الرسمي، لكن كشف المستور عقب انقلاب يوليو تسارعَ بشدة وكَشَفَ بجلاء تام.
عقب إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية ظهر جانب آخر في أنصار السلطة الحاكمة بمصر، فربما كان اندفاعهم لتبرير القتل والقمع اللذان تمارسهما السلطة مبنيّ على مواقف مسبقة من عداوة أنصار الثورة بشكل عام، والتيار الإسلامي بشكل خاص، لكن موقفهم الداعم كليّة لعملية التنازل عن جزء من تراب الوطن، وعلى الأخص جزء نشبت لأجله حروب وسالت لأجله دماء يُظهر جانبا أكثر انحطاطا وانبطاحا أمام إرادة حاكم مستبد، وريالات يتمنى كل منهم حيازتها حال دعمه لذلك الموقف، حتى وإن كان ذلك مبنيا على الوقوف على الجهة المناقضة لما زعموه من حفاظهم على السيادة الوطنية وحماية الحدود، خاصة أن القابض على سلطة البلاد والعباد منع "الخائن" -في زعمهم- الذي قام بعزله من بيع أجزاء أخرى من تراب الوطن.
ما تستدعيه تلك الواقعة ثلاثة أمور، أولها: حالة التناغم الإعلامي مع القرار بشكل خاص والزيارة بشكل عام، فما أن صدر القرار حتى خرج إعلاميو الدولة والقنوات الخاصة لتأكيد سعودية الجزر، في سابقة جديدة تحسب لأتباع النظم المستبدة، والمعتاد وجود حالة دفاع أمام أي مطالبات متعلقة بالأرض، ذلك التناغم نجح بدرجة ما في إحداث حالة قبول للتنازل عند أطراف مؤيدة للدولة، ليظهر ذلك الجانب القميء لدى هؤلاء، من تأييد أي إجراء تقوم به الدولة ظنًّا منهم أن القبول يمثل نكاية في الإخوان، وكأن الوطن وأرضه أصبحا داخليْن في عمليات "المكايدة"، ودلالة ذلك الانقسام المجتمعي مرعبة؛ إذ إن الخلاف حول أفرادا لمسوخ يقبلون أي شيء من السلطة ولو على حساب كرامتهم ودماء من سبقوهم نكاية في أعدائهم، والمثير أن هؤلاء من كانوا يقولون على الإخوان "خرفان".
ثاني هذه الأمور: إلى أي مدى يقبل أفراد المؤسسات الهامة ما حدث؟ ومعرفة الجواب تمكّن من تقييم مدى استعداد تلك المؤسسات للتعامل وفقا للمصلحة الوطنية ولو بشكل محدود في مشاهد فارقة كتلك، أم أن أفراد المؤسسات الفاعلة في إدارة المشهد وصلوا لحالة التماهي التام مع السلطة الفردية، فأصبحوا يتعاملون وفقا لمصالحهم الذاتية التي تحفظ وجودهم في ظل رضا الرئاسة؟ وهل سيتحول رفض تلك الأجهزة لسلوك أم لا؟.
أما الثالث فمتعلق بالفائدة "الصهيونية" من ذلك، خاصة مع ما يثار من كون تلك الجزر هي بوابة التطبيع السعودي-الصهيوني بصورة رسمية وعلنية، ورغم قيام الجبير بنفي التواصل مع "الكيان المحتل" إلا أن تجاربنا مع الزعامات العربية تقول أن النفي مؤشر الإثبات، وقد نقل موقع حزب مصر القوية على لسان رئيسه كلاما متعلقا بهذه النقطة فقال: ما تم هو "طبخة صهيونية" هدفها حرماننا من جزر لها أهمية إستراتيجية بالنسبة لمصر.
السعودية لا تحتاج لجزيرة تيران ولكن ما حدث هو ربط لها "بالكيان الصهيوني".
السعودية بلد الحرمين الشريفين تدخل في علاقات "بالكيان الصهيوني" وهذا في مصلحة الصهاينة الذين يقتلون أبناءنا ويحتلون القدس الشريف.
ما يحمله الكثيرون من أصحاب المشرب الثقافي العربي الإسلامي أن الحدود تراب، وهو معنى صحيح في قضية التكامل والتواصل، لكن ما حدث في تلك المهزلة لا علاقة له بمفهوم "الحدود تراب" بل له علاقة بمفهوم "رُخْص الوطن" أمام المشترين، وعرض الوطن للبيع والشراء في أسواق النخاسة، وكل ذلك جرى بأيدي من يخوِّنون كل الأطراف لمجرد انتقاد ممارستهم، ليحتكروا صكوك الوطنية والتخوين، بعدما احتكروا العنف من قبل.