كتب مأمون فندي: «السوشيال ميديا» (أو التواصل الاجتماعي، الذي أصبح سياسيًا أكثر من كونه اجتماعيًا) في الحضارات الشفوية هي الخرسانة المسلحة أو (اللبشة) لمعمار الديكتاتورية الاجتماعية أو سلطة الزحام والأعراف المتوارثة على حساب سلطة العقل وسيادة القانون. فرغم أن الهدف من «السوشيال ميديا» كما تصور البعض في البداية هو تحرير المجتمعات من الخطاب الرسمي الجاثم على الصدور منذ عقود والانطلاق نحو خطاب متعدد، أصبحت «السوشيال ميديا» وسيلة انغلاق لا وسيلة انفتاح، فلا يتواصل الفرد مع الآخر البعيد والمختلف بقدر ما يتواصل مع القريب المتشابه، فيصبح كل جروب أو تجمع افتراضي بما لديهم فرحين مهنئين بعضهم البعض بمثليتهم الفكرية والسياسية. معمار الديكتاتورية في المجتمعات الشفوية لا يبنى من فوق من قبل الحكومات بل من أسفل عن طريق أساس تصنعه ديكتاتورية «التخجيل». في مجتمعات تكون فيها قوة العار الاجتماعي وذهنية الفضيحة أعظم من قوة القانون وقوة الحق تصنع الديكتاتورية من أدنى وليس من أعلى.
بينما يكون معمار الحرية هو معمار النوافذ والإطلالة على الخارج، يكون معمار الديكتاتورية انكفاءة على الداخل.
وهذا ليس كلامًا نظريًا بقدر ما يعكس معمارنا بصريًا هذه السلوكيات السياسية والاجتماعية، ففي مصر المملوكية مثلا ظهرت عمارة صحن الدار حيث تطل نوافذ البيت على ساحة داخلية بها نافورة كخدعة جمالية لإعادة استئناس الطبيعة وتحويلها من عالم الخارج المختلف غير المضمون إلى المستأنس المضمون في الداخل، وهكذا «السوشيال ميديا» عندنا انكفاء على نافورة صحن الدار، والشباك «اللي ييجي منه الريح، سده واستريح».
إضافة إلى شفوية حضارتنا التي وجدت ضالتها في الكتابة الموجزة بديلاً عن التفكير المطول والعميق،
هناك عوامل أخرى جعلت «السوشيال ميديا» ضد الاختلاف ومع المثلية الفكرية.
خلقنا من أدوات التواصل الاجتماعي الذي لم يعد اجتماعيًا حواري تشبه جغرافيا الحواري، معمارًا عشوائيًا يخلو من المعايير الحاكمة للجودة، وليست «قل كلمتك وامش»، بل اكتب تويتتك أو ضع بوستك وامش. أنتجت «السوشيال ميديا» شعراء العلاقات الثنائية وكتاب القارئ الوحيد، ولا مسطرة هناك لقياس الغث من السمين.
غياب المعايير في الواقع الاجتماعي العربي تم نقله كصورة مرآة في العالم الافتراضي. ورغم أن المأمول كان أن ينعكس الافتراضي الجديد بمعاييره الجمالية والثقافية لينتج واقعًا جديدًا على الأرض إلا أن الواقع أو حتى الهروب منه جهل البلوبرنت (الرسم المعماري الأولي) الاجتماعي يتسيد الافتراضي.
الخوف من العالم الافتراضي في الثقافة الشفوية غير مبرر، إذ تكون قيمة المكتوب حتى في الكتب والصحف أقل قيمة من التواصل المباشر (face to face) لذا يكون تواصلنا في العالم العربي، إما ثنائيًا (على الخاص) أو تخجيلاً على العام، وبالتخجيل أعني تدوير تراث الخوف في الحارة ونقله إلى (الجروبات) بذات الطابع الطاغي اجتماعيًا والذي هو سلوك تخويف (intimidation) وديكتاتورية اجتماعية، ديكتاتورية من أدنى.
الخوف من قدرة «السوشيال ميديا» على هز المجتمعات الديكتاتورية أمر مبالغ فيه، إذ يقوم الافتراضي بإعادة إنتاج الاجتماعي بأدوات حديثة وهو ما يطلق عليه بتحديث التخلف.
الفكرة كانت عندما ظهر التليفون الجوال كانت فكرة انعتاق من ديكتاتورية المجتمع الخانقة، والآن وبعد عشرات السنين من الاستخدام نعرف بجلاء أن تحديث الأدوات لا يعني بالضرورة تحديث المحتوى.
إذ لم يغير التليفون أو «تويتر» أو «فيسبوك» لغتنا، فقط جهلها ذات وهج إلكتروني أزرق، أي جهل بالألوان، أو تخلف أزرق. الناظر أيضا إلى شاشاتنا وفضائياتنا الكثيرة يدرك رغم تعدد الوسائل أنه ومنذ أن فضحت مجلة «الشراع» اللبنانية قصة «إيران – كونترا»، لم تفجر في القرن الماضي ولم تفضح أدواتنا الجديدة قصة ذات بال بالمعلومات، بل أصبح شعار المرحلة «الرأي والرأي الآخر». الرأي لا المعلومة. وفرق بين مجتمعات المعلومات ومجتمعات الرأي.
أصبحت فضائياتنا مصاطب إلكترونية. عقلية الحارة والتجمعات الإلكترونية ذاتها ولكن بلون الشاشات.
الخوف من «السوشيال ميديا» مبالغ فيه، وحديث أن الثورات كانت نتيجة «فيسبوك» و«تويتر» كانت أكبر دعاية كوربوريت عرفها التاريخ في العالم الثالث لشركتي «تويتر» و«فيسبوك» وسواهما. الدعاية البراقة هي التي أنتجت ظاهرة تحديث التخلف والمثلية الثقافية. إذن لا خوف من مكتوب يشبه المحكي في الثقافات الشفوية.