اقتربت أوروبا الآن من استكمال ما يمكن أن نطلق عليه عقد أوروبا الضائع، بفقدان أوروبا لفترة طويلة معدلات النمو الطبيعية التي كانت تحققها قبل الأزمة في الأركان المختلفة للقارة. فالنمو منخفض بشكل عام في منطقة اليورو، وبعض الدول لا تحقق نموا تقريبا، بينما تحقق دول أخرى نموا سالبا.
على الجانب الآخر من الأطلنطي تستعد الولايات المتحدة للخروج من سياساتها النقدية التوسعية التي اتبعتها بشكل مستمر خلال فترة الكساد حتى تمكنت بالفعل من الخروج منه وتراجعت معدلات البطالة إلى مستويات ما قبل الأزمة. بينما يتأزم الوضع في أوروبا وتتراجع مستويات الأداء الاقتصادي لكثير من الدول في المنطقة، سواء داخل منطقة اليورو أو خارجها. ففي الوقت الذي كان فيه «الاحتياطي الفيدرالي» يضخ جرعات متزايدة من التيسير الكمي، كان «المركزي الأوروبي» أكثر ترددا في اتباع سياسات نقدية هجومية لمعالجة جذور الأزمة وتنشيط الطلب لخفض مستويات البطالة ورفع معدلات التضخم على النحو الذي يضمن استدامة ارتفاع معدلات النمو.
كان البنك المركزي الأوروبي قد أطلق حزمة للتوسع النقدي في آذار (مارس) 2015، ضمن إطار برنامج للتيسير الكمي بشراء 60 مليار يورو شهريا من الأوراق المالية، بهدف تحفيز النشاط الاقتصادي وإبعاد شبح الانكماش عن المنطقة، وقد تناولناها بالتفصيل هنا على "الاقتصادية". لكن من الواضح أن الحزمة لم تؤد إلى تحقيق الأهداف المرجوة منها، بصفة خاصة بالنسبة لنمو الائتمان.
في ظل استمرار تراجع الأداء تمت مراجعة مدى النمو المتوقع للمنطقة أخيرا أخذا في الاعتبار الموقف المتراجع للاقتصاد العالمي، حيث يتوقع أن ينخفض النمو في 2016 إلى 1.4 في المئة من 1.7 في المائة، وفي 2017 إلى 1.7 في المئة من 1.9 في المائة، بينما يتوقع أن ينخفض معدل التضخم بصورة كبيرة إلى 0.1 في المئة من 1 في المئة في 2016 وإلى 1.3 في المئة في 2017 و 1.6 في المئة في 2018. هذه التوقعات تعكس ضعف الأداء الاقتصادي للمنطقة وأهمية الحاجة لانتشال المنطقة من أوضاعها الاقتصادية المتردية.
يوم الخميس الماضي فاجأ البنك المركزي الأوروبي العالم باتخاذ مجموعة من الإجراءات شبه اليائسة لمعالجة أوضاع النمو في المنطقة. تمثلت هذه الإجراءات في خفض معدلات الفائدة على مودعات المصارف لدى البنك المركزي بعشر نقاط ليصبح معدل الفائدة على هذه المودعات - 0.4 في المائة، وخفض معدل الفائدة الأساسي إلى صفر في المائة، وتوسيع نطاق برنامج التيسير الكمي بزيادة عمليات شراء الأوراق المالية بـ 20 مليار يورو شهريا لتصبح 80 مليارا، مع توسيع نطاق عمليات الشراء لتشمل أيضا سندات الشركات. من جانب آخر فإن «المركزي الأوروبي» سيبدأ في حزيران (يونيو) المقبل تقديم قروض طويلة الأجل للمصارف الأوروبية. وقد أكد مدير «المركزي» أنه سوف يتخذ الإجراءات اللازمة لرفع معدلات التضخم في منطقة اليورو.
من المتابعة الدقيقة لتقارير مكتب الإحصاءات الأوروبي نجد أن الاقتصاد الأوروبي يعاني بصورة واضحة تداعيات تراجع النمو في الاقتصادات الناشئة، ومخاطر عدم الاستقرار المالي، وضعف خطط الإصلاح الاقتصادي في المنطقة، فضلا عن استمرار انخفاض أسعار النفط التي أصبحت تؤثر سلبا في النمو الاقتصادي العالمي.
فقد حققت منطقة اليورو (19 دولة) نموا في الناتج الحقيقي في الربع الرابع من 2015، بمعدل 0.3 في المئة فقط، بينما حققت مجموعة دول الاتحاد الأوروبي (28 دولة) معدل نمو 0.4 في المئة في الفترة ذاتها، وكانت المنطقة قد حققت معدلات النمو نفسها على التوالي في الربع الثالث من 2015، وخلال العام الماضي اقتصر معدل النمو في المنطقة على 1.6 في المائة، وذلك مقارنة بمعدل نمو 0.9 في المئة في 2014. وفي كانون الأول (ديسمبر) أعلن مكتب الإحصاءات الأوروبي تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1 في المئة في كل من منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، وكان الإنتاج الصناعي قد تراجع بنسبة 0.5 في المئة في نوفمبر في كلتا المنطقتين. ومقارنة بالعام السابق، فقد تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1.3 في المئة في منطقة اليورو، وبنسبة 0.8 في المئة في الاتحاد الأوروبي.
كذلك جاءت تطورات معدل البطالة مخيبة للآمال، فالبطالة تتراجع بمعدلات منخفضة للغاية، مع استمرار أعداد العاطلين مرتفعة. فقد انخفض معدل البطالة في منطقة اليورو إلى 10.3 في المئة في كانون الثاني (يناير)، وذلك مقارنة بمعدل 10.4 في المئة في كانون الأول (ديسمبر) 2015. بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي فقد بلغ معدل البطالة 8.9 في المئة في كانون الثاني (يناير) 2016، وذلك مقارنة بمعدل 9 في المئة في كانون الأول (ديسمبر) 2015، وهو معدل البطالة ذاته في 2009 تقريبا.
أما أهم التطورات الأخيرة فقد تمثلت في تراجع معدل التضخم في شهر شباط (فبراير) 2015 إلى - 0.2 في المئة مقارنة بمعدل 0.3 في المئة في كانون الثاني (يناير)، هذا التراجع الكبير في معدل التضخم ودخوله النطاق السالب مرة أخرى يعد أمرا مقلقا بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي، حيث من الواضح أن السياسات النقدية التوسعية التي يتبعها حاليا لا تساعد في رفع معدلات التضخم نحو مستوياتها المستهدفة التي تساوي 2 في المائة.
من بين التدابير التي سيلجأ إليها «المركزي الأوربي» ولتعزيز الأثر المتوقع من هذه الإجراءات في توسع الائتمان في منطقة اليورو، إعلان البنك المركزي أنه سيقوم بتقديم دعم للمقرضين لمواجهة شبح تراجع معدلات التضخم من خلال تخفيض تكلفة الاقتراض. فبرنامج الإقراض للمصارف الذي يعتزم «المركزي الأوروبي» القيام به في حزيران (يونيو) سيتضمن تقديم قروض بمعدلات تساوي الفائدة على مودعات المصارف لديه، أي أنه سيقرض المصارف بمعدلات فائدة -0.4 في المائة، وهذا يعني أن البنك المركزي سيدفع للمصارف للاقتراض منه بهدف تشجيعها على الاقتراض ومن ثم مد خطوط الائتمان الاستهلاكي والاستثماري في الاقتصاد الأوروبي، وهو إجراء استثنائي بالمعايير كافة.
من المتوقع أن تتراجع مع هذه الإجراءات قيمة اليورو، وهذا أحد مستهدفات البنك، فانخفاض قيمة اليورو سيشجع التجارة الخارجية بزيادة صافي الصادرات وزيادة فوائض التجارة ومن ثم الطلب الكلي، وهو أحد جوانب التحفيز للاقتصاد الأوروبي.
أخذا في الاعتبار طبيعة الإجراءات التي اتخذها المركزي الأوروبي في السابق، فإن الحزمة الجديدة لتحفيز الاقتصاد الأوروبي، كانت بكل المقاييس أكبر بكثير مما كان متوقعا. فبهذه الإجراءات الأخيرة أخذ البنك المركزي على عاتقه مسؤولية مكافحة تراجع النمو من خلال تكثيف استخدام الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية الأوروبية التي تهدف أساسا إلى رفع معدلات التضخم.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية