تحدثنا في مقال سابق عن اتجاهات التغيير الدولية في محاولة لقراءة المشهد الدولي بإجماله وهي عملية مهمة يجب استحضارها لأن لها انعكاساتها القوية على أمتنا الإسلامية بشكل عام ومنطقتنا الملتهبة في المشرق العربي بشكل خاص، والرأي الذي ذهبنا إليه هو أننا نعيش في مرحلة فاصلة في التاريخ تشهد تغييرات ربما لم تحدث منذ مائتي سنة تشمل المستوى السياسي والاقتصادي والمالي والتكنولوجي والعسكري والأيديولوجي، تغييرات هائلة ينبغي إدراكها حتى نحسن التعامل معها.
إن النظام العالمي كله يتغير، ومنطقتنا (الشرق العربي + تركيا + إيران) في قلب منطقة الصدام الجيوسياسي بين القوى الدولية، وجزء أساسي من حالة الفوضى الموجودة في منطقتنا هو انعكاس لحالة التدافع الدولية والإقليمية، بل إن أعلى نسبة من الفوضى والقتل والفتن قد حدثت في منطقتنا، لقد خسرنا في السنوات الماضية 300 ألف قتيل ومئات الآلاف من المشردين، والمنطقة مرشحة للمزيد من الفوضى، هذه النتيجة تفرض علينا أن نكون أكثر حكمة وفهما للواقع وأكثر حذرا من أن يتم توظيفنا في حروب الآخرين، فنبذل نحن الضحايا ويحصد النتيجة الخصوم.
لقد أفقنا على واقع أليم أثبتته أحداث السنوات الخمس الأخيرة وهو غياب المشروع الإسلامي، ورغم أن هناك طيفا من الإسلاميين كان يجادل في مرحلة ما بأنه يمتلك مشروعا (ربما لعدم إدراكهم ماذا تعني كلمة مشروع)، إلا أن الأحداث أظهرت المأساة المتمثلة بعدم وجود مشروع لهذه الأمة.
وفي المراحل الانتقالية يفوز أصحاب المشاريع الجاهزة، أما إن غاب المشروع فستظل الأمة في تيهها أو سيفرض أصحاب المشاريع الأخرى مشاريعهم ولن تغني تضحياتنا شيئا بل سيستفيد منها الآخرون الجاهزون، وأمتنا تفتقد للمشروع السياسي الثوري الذي ينهض بها، وإن شئنا أن نتحدث بمكاشفة أكثر نقول بأنه لا يوجد شيء اسمه (الأمة الإسلامية) بالمعنى السياسي، فهو مفهوم عام وقيمة مجردة في ضمائر المسلمين لكن بدون تنزيل لها على الأرض، أما مشروع الأمة فهو مشروع سياسي بالمقام الأول، يجب أن توجد له حدود وآليات واضحة تماما كما فعل الاتحاد الأوربي الذي بدأ بفكرة انبثقت من نادي روما وتطورت إلى مشاريع مثل: الاتحاد الجمركي والعملة الموحدة والدستور الأوربي ..إلخ. وهو جهد يعتمد على النخبة أصحاب العقول والفكر، ويطرح إنتاجه على الناس ويبشر به، عندها نقول بوجود (أمة إسلامية).
لسنا بدعا من الأمم وتاريخيا تعتبر المراحل الانتقالية فرصة للقوى التي تمتلك مشروعا للتغيير، ونسوق على ذلك مثالين:
1. قرأ السلطان عبد الحميد الثاني المشهد الدولي في عصره وتأكد أن تضارب المصالح وتوازن القوى بين الدول الكبرى سيؤدي إلى حرب كبرى ستنشأ بينها، لذلك كانت رؤيته النأي بالدولة العثمانية عن التنافس الدولي وانتظار لحظة الحرب التي ستستزف القوى الكبرى، واستغلال الفرصة للنهوض من جديد، لكن جماعة الاتحاد والترقي عاجلوه بالانقلاب الذي تم قبل قيام الحرب بستة أعوام وأدخلوا بلادهم بعد ذلك في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل انتهت بسقوطها، وقد ذكر السلطان عبد الحميد ذلك في مذكراته.
2. فشل الحزب الشيوعي الروسي في تثوير الشعب، وقام بثورة فاشلة في عام 1905، لكن مفكري الحزب قاموا بمراجعة فكرية وتنظيمية شاملة لفكرهم وحزبهم ظهرت في كتابات مثل (خطوتان للخلف خطوة للأمام) للينين و(الدروس اللينينية) لستالين، وبعد سيل من المراجعات أدت إلى بناء فكر ثوري انتشر بين الشعب وبعد قراءة المشهد المحلي والدولي بدقة ألقى لينين خطبته التي أعلن فيها انطلاق الثورة البلشفية قائلا: بالأمس كان الوقت مبكرا وغدا سيكون الوقت متأخرا، اليوم أعلن انطلاق الثورة، واستطاع لينين بكوادر حزبية طليعية لا تزيد عن 5000 عضو أن يشعل ثورة ويصل إلى الحكم في بلد بلغ سكانه حينها 100 مليون نسمة.
إن هذه المآسي التي تمر بها أمتنا وهذه المرحلة المتقلبة من تاريخ البشرية وإن كانت في جزء من الصورة تمثل وجها مأساويا بشعا إلا أنها في الجزء الآخر تعتبر فرصة ذهبية لتصحيح الأوضاع الخاطئة وإعادة بناء (الأمة) على أسس قوية، ونحن نملك من المقومات ما يجعلنا مرشحين لذلك:
• فنحن نملك ذاتيا قوة الإسلام الروحية والفكرية والذي يمكن من تعاليمه أن نبني أيديولوجية سياسية واقتصادية واجتماعية تخلص العالم من تيهه، ونحن هنا لا ندعو لاستخدام الإسلام كأيديولوجيا فالإسلام دين الله المعصوم، والأيديولوجيا كسب بشري هو نتيجة إعمال العقل لإيجاد حلول للبشرية مستمدة من نبع الإسلام الصافي.
• ونحن نملك الحيوية والدينامية فمجتمعاتنا شابة طموحة تغلي بحب التضحية والبذل والفداء، وشبابنا إن كانوا في بعض الأحيان يميلون للعنف والإرهاب فإنما هذا نتيجة لتراجع الفكر المعتدل، وهي ظاهرة طارئة بالإمكان توظيفها بإيجابية إن وجد البديل الحضاري المعتدل.
• وشبابنا الآن بعد أن خاضوا الثورات قد عركتهم التجارب والمحن، وأصبحوا أكثر وعيا وحكمة، فقد فرضت عليهم الظروف أن يجدوا حلولا في ظروف صعبة وأن يتخذوا قرارات تكتيكية واستراتيجية في آن واحد، وهذا مؤشر على ولادة نخب جديدة، فالنخب الحقيقية إنما توجد في مثل هذه الظروف، لذلك لا غرابة أن نقرأ في الإعلام عن خلافات بين جيل الشباب والمسنين في الأحزاب السياسية العريقة، فقد كبر الشباب عن الطوق ولم تعد تستوعبهم لا الأفكار ولا الهياكل القديمة.
وكنتيجة طبيعية لغياب المشروع الجامع للأمة برزت مشروعات أخرى لتملأ الفراغ وتعبث بالمنطقة، فنحن وإن كنا نرصد حالة تراجع استراتيجي للولايات المتحدة عن المنطقة لكن بإمكاننا تلمس الخطوط العريضة لما تستهدفه، وكلمة السر فيه هو التفتيت على أسس طائفية وعرقية، ورغم تضارب الخرائط التي تتحدث عن تقسيم المنطقة إلا أن هناك عنوانين رئيسيين: إقامة دولة كردية، وحماية إسرائيل، ومن غير المعقول أن تكون سياستنا وخطابنا منسجما مع سياسة التفتيت والتجزئة بل يجب الرد بقوة بمشروع وحدوي معاكس.
فإذا كان التاريخ يعلمنا بأنه في المراحل الانتقالية ينتصر من يجمع بين العقل والإرادة، بين المشروع وأدوات تنفيذه، فإن مشروع تحرير فلسطين هو مشروع مرشح بقوة فهو قادر على توحيد الأمة وحل إشكالاتها الطائفية والعرقية، وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، شرط أن تتحول قضية فلسطين من قضية كل المسلمين إلى محرك كل المسلمين، المحرك الذي من خلاله يتحررون هم من واقعهم البائس إلى مستقبلهم المنشود، ويرسمون خريطتهم وحدودهم وعاصمتهم ونظامهم الاقتصادي والسياسي الذي يريدونه.