أبصم بأصابعي العشرة على استهجان وازدراء كل من يمارس التطبيع مع الإسرائيليين.
ولا أنسى أنني رفضت طوال سنوات أن أصافح زميلا في «الأهرام»؛ لأنني علمت أنه واحد من هؤلاء، معتبرا أنه بما فعله تورط في نوع من «النجاسة» السياسية التي يصعب عليه أن يتطهر منها وستظل بمثابة وصمة عار تلاحقه إلى يوم الدين.
مع ذلك، استغربت رشق النائب توفيق عكاشة بالحذاء تحت قبة مجلس النواب؛ لأنه استضاف السفير الإسرائيلي في بيته، رغم أنني أقدر النائب كمال أحمد الذي فعلها، وأتفهم أسباب غضبه، مع ذلك فلم أفهم لماذا خص زميله دون غيره بذلك التصرف. في الوقت ذاته، فإنني لا أتفق مع الذين تركوا الموضوع الأساسي وراحوا يتكلمون عن اللياقة والملاءمة وموقف اللوائح من استخدام فردة حذاء في التعبير تحت قبة البرلمان عن موقف كان الرشق بالحذاء هو الوسيلة المناسبة، حيث لا نعرف في الثقافة العربية سلاحا أدنى مرتبة منه.
فضلا عن أن لنا خبرة سابقة في استخدامه للإعراب عن النفور والازدراء، وأزعم في هذا الصدد أن في الموضوع قضية أكبر يتعين أن نواجهها بصراحة وشجاعة، وقد كسر تصرف النائب الذي فجر القضية الصمت المفروض عليها، الأمر الذي يرشحه لدخول التاريخ بحذائه الذي أفصح عن غيرته وانفعاله.
ما حيرني في الموضوع أن السيد عكاشة ليس أول المطبعين مع الإسرائيليين، ولن يكون آخرهم. ولكنه يقف في آخر طابور طويل لأفراد تشوهت مداركهم وخذلتنا ضمائرهم ولوثوا أيديهم بمصافحة الإسرائيليين. إذ سبقه في الطابور آخرون من المسؤولين وغير المسؤولين، فضلا عن بعض المثقفين الذين تورطوا في التطبيع ومارسوه بجرأة فاضحة. وكان الكاتب المسرحي الراحل واحدا من أشهرهم، حتى إنه حين توفاه الله قبل عدة أشهر تسابق كثيرون على رثائه وامتداحه كواحد من رسل السلام ودعاته. وكان وزير الثقافة أحدهم. ولم يشر أحد من قريب أو بعيد إلى عاره الذي ذهب به، وكأن التطبيع صار فضيلة وما عاد جريمة، أو أنه صار جريمة تسقط بالتقادم.
السؤال الذي شغلني هو لماذا تم رشق السيد عكاشة دون غيره من الواقفين في طابور التطبيع والمروجين له؟ يكتسب السؤال أهمية أكبر إذا أدركنا أن بعض الدوائر الرسمية المصرية انخرطت في التطبيع. ومنها من تجاوز حدوده بمراحل، ودخل في مجالات أبعد تشير إليها التسريبات والتصريحات الإسرائيلية بين الحين والآخر. وكلها تتحدث عن تعاون وتنسيق بين القاهرة وتل أبيب يدعون أنه يتم في محاربة الإرهاب. وهو ما أصبح غطاء للإرهاب الإسرائيلي الذي تمارسه في الأرض المحتلة ومسوغا لزعم إسرائيل أنها أصبحت طرفا في معسكر الاعتدال السني الذي يسعى للقضاء على الإرهاب.
إزاء هذا الموقف الملتبس، خطر لي أن يكون رشق السيد عكاشة بالحذاء قد تم لأسباب لا علاقة لها بالتطبيع أو زيارة السفير الإسرائيلي. حجتي في ذلك أن زميله النائب الذي تقدر غيرته إذا كان قد أغضبته زيارة السفير فربما توقعنا منه أن يظل طول الوقت مستحضرا خزانة أحذيته، ومستهدفا أمثاله بالرشق أينما ذهب، ولأن ذلك أمر مستبعد يفوق طاقته وقد يعرضه لما لا يحب، فإن احتمال وجود أسباب أخرى لتخصيص السيد عكاشة بالرشق يصبح قائما.
يعزز ذلك الاحتمال ويقويه أن الرجل مستحق للرشق لأسباب أخرى عديدة تخللت مسيرته الإعلامية والسياسية. وهي حافلة بالمواقف التي لا سبيل لاستهجانها إلا بمثل ذلك الأسلوب الجدير به.
أيا كان الأمر، فواقعة رشق الرجل بالحذاء التي احتلت عناوين الصفحات الأولى لأغلب الصحف الصادرة يوم الاثنين الماضي 29/2 تثير مسألتين مسكوتا عليهما على جانب كبير من الأهمية:
الأولى تتعلق بمصير مقاطعة إسرائيل التي أصبحت عنوانا فارغ المضمون ينتسب إلى الماضي ويجري العبث به في الحاضر، من جانب قطاعات لا يستهان بها من المسؤولين ورجال الأعمال والمثقفين.
الأمر الثاني -الأهم- هو تحرير العلاقة بين مصر وإسرائيل في الوقت الحاضر. وهو الملف الذي تثير حوله تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي أشرت إليها لغطا كثيرا، وبعضه يسيء إلى الموقف المصري ويشكك فيه.
وأحسب أن حادثة الحذاء إذا أردنا أن نأخذها على محمل الجد تشكل مناسبة لكسر جدار الصمت الذي يحيط بالمسألتين، ومن ثم فتح الباب لمناقشتهما، إما في إحدى الجلسات العامة، أو في داخل لجنة الشؤون العربية أو الأمن القومي. وإذا ما حدث ذلك فسيكون الفضل فيه للحذاء وصاحبه.
أما إذا انتهى الأمر بإجراء تحقيق داخلي حول مدى التزام العضو كمال أحمد بضوابط السلوك المقررة في لائحة المجلس، فإن جدار الصمت سيظل قائما، وستتولى البيروقراطية دفن الموضوع بحيث لا يبقى أمام الغيورين من أمثال كمال أحمد أن يرفعوا شعار «الحذاء هو الحل»!