قضايا وآراء

روسيا للأسد: نحن من يقرّر المآلات

غازي دحمان
1300x600
1300x600
عبر سلسلة من التصريحات والمواقف المتواترة بدا نظام  الأسد وكأنه يريد إعادة موضعة نفسه ضمن سياق التطورات الميدانية والسياسية في سوريا، وذلك من منطلق أنه لاعب أساسي وصانع للفارق الميداني الحاصل، وكأن اللاعبين الآخرين الذين يشاركونه اللعبة ليسوا سوى مرتزقة مأجورين جاءوا إلى الميدان السوري لتثبيت سلطته، ومن ثم سيعودون لقواعدهم فور إنجاز المهمة.

تصريحات بشار الأسد، وبعض أركان نظامه، عن أنهم سيواصلون الحرب لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية وحتى لو استمر ذلك سنوات، لم يكن صداها في موسكو جيدا، لا بل إنها شكّلت خرقا لقواعد اللعبة الدولية والإقليمية التي تنخرط روسيا بها، وهذا ما استدعى ردا علنيا من فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة، وصل إلى حد يمكن تشبيهه بالتوبيخ العلني في اللغة الدبلوماسية. ترى ألم يكن بإمكان فلاديمير بوتين إيصال مضمون ما يريده بمكالمة هاتفية؟ من الواضح أن العلنية كان المقصود منها طمأنة اللاعبين الآخرين إلى أن الأمور لم تخرج عن نسق التفاهمات المعقودة، على الأقل فيما يخض المآلات، وخاصة أن روسيا التي بالغت في أخطائها التنفيذية، ظلّت تطمئن اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى أن العبرة في المآلات، حتى لو كان ذلك مجرد تكتيك لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة ضد روسيا.

ربما يعود السبب الحقيقي لتصريحات الأسد، وخاصة وأنه تعمّد إطلاقها عبر منبر داخلي، إدراك الأسد أكثر من غيره أن أهدافه قد تلتقي مع الأهداف الروسية، ولكنها لن تتطايق مع بعضها، وأنه عند لحظة زمنية وتطورات عملانية في مسار علاقتهما، ستبدأ الأهداف بالافتراق، في تلك اللحظة ستكون موسكو قد باشرت بتشبيك نتائج وجودها في سوريا، مع جملة من الارتباطات والمصالح في الملفات الدولية التي تتفاوض فيها روسيا مع العالم، وفي تلك اللحظة سيتحول نظام الأسد إلى مجرد عنصر من عناصر التفاوض، ولن يكون معطى ثابتا في واقع شديد التغير لدرجة السيولة.

ومن جهتها، تدرك روسيا أن ثمة جزئية مخفية في نجاحها تتعلق بعدم وجود تصد جدي لها من قبل الأطراف الإقليمية والدولية، وأنه لو حصل ذلك لتغيرت تماما مسارات الحرب، وأن ذلك لن يستمر طويلا، وأنه إذا شعرت الأطراف بخلاف ذلك، فإن الأمور ستنقلب على روسيا، ووقتها ليس فقط ستخسر الحرب بل وتخسر معها كل التقدم الذي أحرزته في ملفات كثيرة.

كما أن روسيا الخبيرة بمعتركات السياسة الدولية، تعرف أنها ستذهب للتسويات وذلك لا يعني أن مطالبها هي فقط ما سيتم تحقيقه في بازار المساومات، بل تدرك أنه من المستحيل إلغاء مطالب الشعب السوري في تغيير الأسد، فذلك أكبر من أن تنهيه غارات السوخوي في أشهر محددة، كما أن هذا الأمر باتت له حيثيات ووقائع كثيرة، بحيث يصعب استئصالها بالحرب مهما بلغت قدرتها التدميرية، ثم إن روسيا نفسها باتت تحتاج لسنوات طويلة حتى تلملم التداعيات التي أحدثها انخراطها في الحرب السورية، وأن أفضل مخرج لها هو التوافق على حل سياسي تظهر من خلاله موسكو أنها كانت تسعى لإنهاء الأزمة، وليس معاداة شعب سوريا وامتداده العربي والسني، أكثر من ذلك تجد روسيا أنها أمام فرصة لن تتكرر، ففي الوقت الذي باتت مطالب خصومها تتركز في إزاحة الأسد وهو ثمن رخيص، فإن العالم مقابل ذلك مستعد لتقديم الكثير من الإغراءت لها، وأولها الاعتراف الشرعي بوجودها في سوريا.

روسيا استثمرت بجدية بالغة في هذه الأزمة سياسيا وديبلوماسيا، والآن على الصعيد العسكري، هذا ما قاله تشوركين بكل وضوح وواقعية سياسية، ربما لم نعهدها في الخطاب السياسي الروسي طوال فترة حكم بوتين، وهذه الواقعية قرضتها لا شك معطيات كثيرة، منها ظهور مؤشرات تملمّل وخوف في الداخل الروسي، إما بسبب تراجع مستوى المعيشة نتيجة العقوبات الاقتصادية، أو لحاجة الروس إلى رؤية أفق لهذه الحرب، فهم غير مستعدون للانخراط في حروب حتى أجل غير معلوم، إضافة إلى معرفة القيادة الروسية إلى أن الأمور بلغت الذروة في الاحتمال الدولي والإقليمي، وأنه ما لم تبدأ  روسيا بإظهار العكس، فإن الكثير من الإجراءات ستبدا بالتبلور والظهور، ليس حبا بالعدالة ولا كرامة لعيون الشعب السوري، ولكن لأن تداعيات حرب بوتين بدأت تفيض بقوة على الإقليم  وأوروبا وحتى مصالح أمريكا نفسها.

ربما من المبكر الذهاب إلى نتائج حاسمة وتحديد المسارات القادمة بدقة، كما أن مقدمات الانخراط الروسي في الحرب بسوريا، لا تشي بعملية انفكاك سريعة، لكن هذا الرد الروسي يكفي لاعتباره مؤشرا أوليا على على تغيير في المقاربة وأدوات التنفيذ، بقدر ما هو مؤشر حاسم على أن الأسد وسلطته قد تم وضعهم على سكة التغيير المستقبلي وإخراجهم من دائرة التأثير، وهذا يكشف بوضوح أن الأسد كان موجودا ضمن الخطة الروسية فقط في دوائر التنفيذ، ومغيب تماما عن صورة المشهد الاستراتيجي الذي يجري رسمه بين الكبار.
0
التعليقات (0)