تتمثل الاحتياطيات الدولية فيما يحتفظ به البنك المركزي من عملات أجنبية وحقوق سحب خاصة لصندوق النقد الدولي وسندات وذهب ونحوها. وتبدو أهمية هذه الاحتياطات من كونها وسيلة المدفوعات الدولية الرسمية، وتسديد الديون والالتزامات، ودعم العملة الوطنية. وهي في حقيقتها خط الدفاع لتلبية احتياجات الدولة من السوق الدولية، وهي على الأقل ينبغي أن تغطي ثلاثة شهور من الواردات السلعية.
ويتولى البنك المركزي المصري وفقا لقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 إدارة احتياطيات الدولة من الذهب والنقد الأجنبي، وتنظيم إدارة سوق الصرف الأجنبي، والإشراف على نظام المدفوعات القومي، وحصر ومتابعة المديونية الخارجية على الحكومة والهيئات الاقتصادية والخدمية والقطاع العام وقطاع الأعمال العام والقطاع الخاص.
وتشير بيانات البنك المركزي المصري إلى أن الاحتياطي من النقد الأجنبي في عهد المجلس العسكري (شباط/ فبراير 2011) بلغ 35 مليار دولار، ومع بداية حكم الرئيس مرسي (1/7/2012) بلغ 14.4 مليار دولار وهو ما يعني استنزاف المجلس العسكري منه 20.6 مليار دولار نتيجة حركة تهريب الأموال لرجال نظام مبارك حينها، وقد قدرت منظمة النزاهة المالية حجم التدفقات المالية غير المشروعة التي خرجت من مصر في عامي 2011 و2012 بمبلغ 10.2 مليارات دولار.
وحينما اغتصب العسكر السلطة من الرئيس محمد مرسي (3/7/2013) كانت قيمة الاحتياطي 14.9 مليار دولار. وقد وصل الاحتياطي في وقت اغتصاب قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي للرئاسة (8/6/2014) إلى مبلغ 16.7 مليار دولار ثم انخفض إلى 15.9 مليار دولار في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2014. وفي نهاية نيسان/ أبريل 2015 ارتفع الاحتياطي إلى 20.5 مليار دولار نتيجة لورود ودائع دول الخليج الدولارية بمبلغ 6 مليارات دولار، ثم ما لبث أن انخفض الاحتياطي في نهاية أيار/ مايو 2015 (أي في ظرف شهر واحد) بنحو 900 مليون دولار ليبلغ 19.6 مليار دولار، ثم ارتفع مرة أخرى في نهاية حزيران/ يونيو 2015 إلى 20 مليار دولار نتيجة حصيلة السندات الدولارية التي تم طرحها في الأسواق الدولية في الشهر ذاته بقيمة 1.5 مليار دولار وبسعر فائدة مرتفع 5.9%، وهو ما يعني استنزاف مليار دولار إضافي في شهر حزيران/ يونيو 2015. ثم استمر الانخفاض في الشهور التالية حتى بلغ الاحتياطي 16.4 مليار دولار بنهاية كانون الثاني/ يناير 2016، رغم ورود وديعة بمبلغ 900 مليون دولارمن البنك الصيني للتنمية لدعم الاحتياطي من النقد الأجنبي ضمن قرض إجمالي يقدر بمليار دولار بأجل 11 سنة منها ثلاث سنوات فترة سماح والباقي للسداد. فضلا عن اتجاه البنك المركزي للاستحواذ على بعض الأرصدة الدولارية من البنوك المحلية، فقد كشفت شركة «بلتون» القابضة للاستثمارات المالية، أن البنوك المحلية قامت بإيداع 3.6 مليارات دولار من ودائع العملاء بالبنك المركزي، لإخفاء انكماش حاد في أرصدة الاحتياطي الأجنبي خلال الربع الثاني من العام المالي 2016/2015، لافتة إلى أن تجميل العملية "Operation makeup" مكن الدولة من الحفاظ على أرصدة الاحتياطي عند مستوى يدور حول 16 مليار دولار، موضحة أن تجنيب أثر ودائع البنوك يهوي بالاحتياطي الأجنبي لمستوى 12.5 مليار دولار، وهو ما يغطي شهرين ونصف فقط من الواردات السلعية، مع إشارتها إلى أن هناك التزامات قائمة بالعملة الأجنبية لشركات النفط والغاز الأجنبية، فضلا عن متطلبات استيراد المواد الخام لمشروعات البنية الأساسية.
وتشير بيانات البنك المركزي عن شهر كانون الثاني/ يناير 2015 إلى أن صافي الاحتياطيات الدولية يبلغ 16445 مليون دولار مقسمة إلى ذهب بمبلغ 2211 مليون دولار، ووحدات حقوق سحب خاصة بمبلغ 1161 مليون دولار، وقرض صندوق النقد الدولي بمبلغ 55 مليون دولار، وعملات أجنبية بمبلغ 13041 مليون دولار، وهذه العملات في حقيقتها تمثل ودائع دولارية، ومن ثم فإنه لا يوجد احتياطي نقدي حقيقي.
واتجاه البنك المركزي المصري لسياسة تثبيت الاحتياطي النقدي هي ظاهرة إعلامية أكثر منها حقيقية، فالاحتياطي النقدي الحقيقي يعجز عن القيام بمهامه في تلبية الاحتياجات الملحة للدولار اللازمة لمعاملات مصر الدولية، أو المساهمة في دعم العملة الوطنية، وذلك نتيجة طبيعية لكونه ودائع دولاية، وعدم قدرته على الصمود في ظل مشكلة شح الدولار الذي وصل سعره في السوق السوداء إلى 9.25 جنيهات رغم أنه لم يبارح سعره في السوق الرسمية 7.83 جنيهات. وقد تمت هذه القفزة في سعر الدولار رغم الإجراءات الإدارية المتلاحقة التي اتخذها البنك المركزي والحكومة على السواء لتقييد حركة الواردات بصورة اتسمت بالمغالاة سواء من خلال قرار وزير الصناعة والتجارة بتقييد صادرات خمسين سلعة أو قرارات السيسي برفع التعريفة الجمركية على نحو 600 سلعة، وكذلك بوضع قيود على حركة الدولار من قبل البنك المركزي برفع التأمين النقدي بنسبة 100% بدلا من 50% فقط بالنسبة للعمليات الاستيرادية للشركات التجارية عدا عمليات استيراد الأدوية والأمصال والمواد الكيماوية الخاصة بها، وألبان الأطفال، ورفع الحد الأقصى للإيداع الدولاري للشخصيات الاعتبارية إلى 250 ألف دولار (أو ما يعادله بالعملات الأجنبية) شهريا بدلا من 50 ألف دولار، وبدون حد أقصى يوميا بعد أن كان الحد الأقصى للإيداع 10 آلاف دولار يوميا وفقا لقرار البنك المركزي في شباط/ فبراير 2015، ثم قراره في 15 شباط/ فبراير 2016 بزيادة الحد الأقصى للإيداع النقدي لها إلى مليون دولار شهريا (أو ما يعادله بالعملات الأجنبية) وبدون حد أدنى للإيداع اليومي، للشركات العاملة في مجال التصدير ولها احتياجات استيرادية، وقبل ذلك بيوم واحد قراره بضرورة سرعة تعديل البرمجيات المطبقة على أجهزة نقاط البيع (POS) - أي الماكينات المستخدمة في الدفع- أو المحول الخاص بها، بحيث لا يتم السماح بالتعامل عليها في عمليات الخصم بالعملات الأجنبية داخل مصر، باستخدام البطاقات الائتمانية، أو بطاقات الخصم، أو البطاقات المسبقة الدفع الصادرة من بنوك القطاع المصرفي المصري بالعملة المحلية. وأمهل البنوك شهرين لتوفيق أوضاعها وتعديل البرمجيات الخاصة بأجهزة نقاط البيع.
إن إجراءات البنك المركزي لم تمنع ولن تمنع دون تفاقم أسعار الدولار في ظل شح السيولة الدولارية في السوق المصري وزيادة الطلب على الدولار، وهذا نتاج طبيعي لانخفاض الصادرات غير البترولية العام المالي 2014/2015 بنسبة 15%، وفي الربع الأول من العام المالي 2015/2016 بنسبة 26.5%، وتراجع الإيرادات السياحية في العام 2015 بنسبة 15.2%، وانخفاض إيرادات قناة السويس في الربع الأول من عام 2015/2016 بنسبة 8%، وانخفاض تحويلات المصريين العاملين بالخارج عن الربع نفسه بنسبة 11.9%، وانخفاض المعونات الأجنبية في العام المالي 2014/2015 بنسبة 341%، بينما زاد الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 4.9% في الربع الأول من العام 2014/2015 وهذه الزيادة في جلها نتيجة لشراء المصريين بالخارج أراضي طرحتها الحكومة بالدولار.
إن الناظر لإجراءات السياسة النقدية في مصر فيما يتعلق بإدارة سعر صرف الجنيه والاحتياطيات الدولية يجد أنها تتسم بالتخبط وعدم وجود رؤية للخروج من المأزق، وأنها في حقيقتها تراكمات لحكم العسكر الذي ينظر لأعراض المرض دون أسبابه، مستبدلا العقل والرؤية الاقتصادية والاستقلالية بالعضلات والقرارات العسكرية الاستبدادية، فالسياسة النقدية ينبغي أن تكون خادمة للسياسة الهيكلية التي غابت عن قاموس الانقلابيين. ولن تتوقف حدة الانخفاض في الجنيه خلال الفترة المقبلة، فاعتماد البنك المركزي على قرارات إدارية للحيلولة دون ارتفاع سعر الدولار من خلال التعويم غير النظيف لن يستمر طويلا، والقادم أسوأ في ظل الحول التنموي الحكومي، وانخفاض مصادر الموارد الدولارية، وتشجيع حمى المضاربة، وارتفاع وقود التضخم، وتنامي الديون الخارجية، وتصدير القرارات العسكرية. فالمشكلة في أساسها ترجع إلى انقلاب العسكر وما نتج عنه من استبداد ومزيد لعسكرة الاقتصاد، بل والجمع بين السلطة والثروة، وتقنين الفساد، وهذا خير رسالة لتطفيش الاستثمارات، والتنافس في تهريب الأموال، وهو ما يعني في النهاية مزيدا من ارتفاع سعر الدولار، وارتفاع مخاطر الديون الخارجية، التي تكشف أن بوادر الإفلاس أصبحت على الأبواب، فمصر مطالبة خلال شهر تموز/ يوليو المقبل بسداد باقي قيمة الوديعة القطرية بمليار دولار، فضلا عن 700 مليون دولار لنادي باريس، إضافة إلى متأخراتها في الوقت الحالي لشركات البترول الأجنبية والتي وصلت إلى 3 مليارات دولار، واعتماد الحكومة على إسهال القروض الخارجية لحل مشكلة الدولار سيزيد من الأزمة وتبعاتها، وسيصل إن عاجلا أو آجلا إلى عدم الوفاء بالإلتزامات تجاه المقرضين وهو ما يعني الدخول في نفق الإفلاس وتبعاته التي لا تنقضي.