درجة الدكتوراه هي أعلى الشهادات العلمية التي يمكن أن يحصل عليها الفرد، لذلك ينظر إلى الحاصلين عليها على أنهم أكثر الأشخاص المتخصصين تأهيلا في مجالهم، كما ترتفع توقعات المجتمع حول هؤلاء، حيث ينتظر منهم أرقى الإسهامات العلمية في المجالات التي يخدمون فيها.
حلم الحصول على الدرجات العلمية، خصوصا الدرجات العليا مثل درجة الدكتوراه يراود الكثيرين، والبعض ممن تقصر قدراتهم على الدراسة الجادة، أو الذين لا يجدون الوقت أو المال الكافيين للانخراط في مؤسسة علمية للحصول على الدرجة بصورة اعتيادية قد يختصرون الطريق بشرائها، خصوصا إذا كانت مجالات الشراء مفتوحة مثلما هو الحال في عالمنا اليوم.
يطلق على المؤسسات التي تبيع هذه الدرجات "مطاحن الدرجات Degree Mills". تشير السي إن إن على لسان جورج جولين عضو مجلس الاعتماد الأكاديمي للتعليم العالي في الولايات المتحدة إلى أنه يقدر عدد الشهادات المزورة بأكثر من 100 ألف شهادة يتم بيعها سنويا في الولايات المتحدة وحدها، ثلثها شهادات لدرجات في الدراسات العليا. كذلك يشير سكوت ماكليمي إلى أن هناك نحو 40000 دارس يحصلون على الدكتوراه بصورة قانونية سنويا في أمريكا، ولكن في المقابل هناك نحو 50000 يشترونها، وقد حدث أن تمكن بعض الأشخاص من الحصول على شهادات للدكتوراه بأسماء كلابهم أو قططهم، إمعانا منهم في السخرية من مطاحن بيع الشهادات المزورة.
ولكن إذا كانت أعداد حملة الدرجات الوهمية كبيرة إلى هذا الحد، لماذا لم تتم مواجهتها على النحو الذي يتوافق مع خطورة الظاهرة وخطورة النتائج التي تترتب عليها؟ الإجابة تكمن في قلة عدد الحالات التي يتم مقاضاتها نتيجة هذا النوع من التزوير، وهو من يقلل من أهمية الظاهرة مجتمعيا إلى الحد الذي لا تبدو الظاهرة على أنها مشكلة حقيقية. مع الأسف قد تقف عوامل كثيرة أمام فتح باب مكافحة الظاهرة، بعضها يرجع إلى الضغوط السياسية، أو القوة التي يملكها أصحاب الدرجات الوهمية، أو الخوف على سمعة مكان العمل أو انتشار الفساد ... إلخ. من جانب آخر فإن عملية متابعة المطاحن التي تمنح هذه الدرجات غالبا ما تكون صعبة أو مستحيلة في بعض الأحيان خصوصا تلك التي توجد على الإنترنت، وغالبا ما يصعب ضبطها بسبب الفساد الذي يحمي مثل هذه المطاحن في الدول النامية.
لماذا يلجأ البعض إلى الدرجات الوهمية؟ لا شك أن أسباب اللجوء لشراء هذه الدرجات الوهمية متعددة، بعضها اقتصادي والبعض الآخر اجتماعي، وبالتأكيد أيضا نفسي. فالدرجة الوهمية تحسن من فرص الشخص في الحصول على وظيفة أعلى أو الترقي في العمل والصعود إلى مراكز رفيعة، خصوصا إذا كانت حظوظ الفرد في المساندة كبيرة. فالكثير من المجتمعات تلعب فيها الواسطة والمحسوبية دورا مهما في عمليات الانتقاء. أو ربما يسعى الشخص وراء مكانة اجتماعية أعلى أو حتى للحصول على زوجة مناسبة لدرجة من يحصل عليها. من جانب آخر قد ترتفع المنافسة في سوق العمل مع تزايد أعداد حملة الشهادات العليا، فتكون عملية شراء الشهادات وسيلة سهلة للتعامل مع ضغوط المنافسة ورفع فرص الحصول على الوظيفة الملائمة، خصوصا إذا ما كانت إجراءات الحصول على الوظيفة شكلية.
بحسابات التكلفة والعائد، فإن هذا النشاط يعود بعائد كبير على كل من الشخص ومطاحن الدرجات العلمية، فهي تقوم ببيع شهادات لا تكلف شيئا تقريبا في مقابل مادي مضمون، أما بالنسبة للشخص فإنه إذا ما نجح في الحصول على وظيفة بهذه الشهادة فإنه سوف يضمن تدفقا مستمرا للعوائد من الوظيفة حتى التقاعد. فحامل الشهادة الوهمية قد يجد نفسه على كرسي فخم ومنصب رفيع، غير أنه ما إن تتم عملية التعيين حتى تظهر الكارثة عندما يمارس مهامه، المشكلة أن بعض من حصلوا على وظائف بشهاداتهم المزورة قد يصعب خلعهم منها أو إزالتهم نظرا لعمق اتصالاتهم أو قوة تأثير القواعد التي يستندون إليها.
لسوء حظ صاحب الشهادة الوهمية أنه لا يدرك حقيقة أنه ما إن يبدأ بالكلام حتى يكتشف جميع من حوله أنه لا يحمل شهادة الدكتوراه، حتى إن كان حديثه منتظما منمقا، فلن تجد فيه أي محتوى.
الخاسر الوحيد في هذه العملية هو المجتمع، الذي يستخدم خدمات هذا المزور. فخطورة الظاهرة تصبح أكثر وضوحا عندما يعمل بعضهم في وظائف حساسة، كالمهندس الذي يشترك في عمل إنشاءات هندسية مهمة، أو الطبيب الذي يقدم خدمات الرعاية الصحية لمرضى لسوء حظهم أنهم لا يدركون أنه طبيب مزيف لا يملك المؤهلات اللازمة لتطبيبهم. باختصار فإن الدرجات العلمية الوهمية تحول الاقتصاد القومي إلى اقتصاد أقل كفاءة وفاعلية.
ولكن كيف يمكن الحصول على الشهادات الوهمية؟ هناك أكثر من وسيلة للحصول على هذه الدرجات الوهمية. فبعض مطاحن الدرجات تقوم بتزويرها، وذلك بإصدار شهادة مقلدة لجامعة معروفة، أو أحيانا تبيع شهادات مزورة لجامعات حقيقية، ثم تقوم برشوة أحد العاملين في هذه الجامعات لإدراج ملف بين الملفات الخاصة بالجامعة باسم الشخص الذي حصل على الدرجة في قائمة بيانات الجامعة، على النحو الذي يبدو من خلاله أن الشخص قد حصل بالفعل على الدرجة من الجامعة.
بينما قد يقوم البعض الآخر بإنشاء نظام متكامل لمنح الدرجات الوهمية بدءا من مكتب وهمي على الإنترنت يتم تصميمه على أنه يتبع جامعة معروفة، فكل ما يتطلبه الأمر هو شراء موقع على الإنترنت مزود بتسهيلات تمكن العملاء من سداد ثمن الدرجة، ثم آلية معينة للرد على استفسارات الشركات الموظفة لحملة هذه الدرجات لإثبات أن هذه الشهادات حقيقية، وحتى يطمئنوا لخلفية من قاموا بتعيينهم.
بعض هذه المطاحن قد تلجأ لحيل أخرى لتثبت بها جدية ما تقوم به من نشاط، على سبيل المثال تطلب من الشخص مدها بسجل لخبراته العلمية والعملية لتتولى تقييمه ثم منحه الدرجة المناسبة على أساس هذه الخبرة العملية، أو ربما قد تطلب من المتقدم القيام ببعض الدراسات البسيطة لأسبوع أو لعدة أسابيع إمعانا في إثبات الجدية، ثم تقوم بإرسال اختبارات للشخص ليتولى الإجابة عنها باستخدام الكتب التي يقوم بشرائها منها، وغير ذلك من الإجراءات الشكلية التي يعقبها منح الطالب شهادة تثبت حصوله على الدرجة، أو غير ذلك من الحيل التي تقنع المسكين بأن درجته حقيقية وقانونية.
الكارثة الحقيقية هي عندما تتم هذه العملية من خلال جامعات قائمة وبواسطة أعضاء هيئة تدريس عاملين فيها، على سبيل المثال يذكر Osipian أن بيع درجات الدكتوراه في روسيا يتم من خلال جامعات حقيقية وقائمة، بسبب انتشار الفساد في النظام التعليمي وسوء استخدام السلطة لتحقيق مكاسب مادية، وتتم هذه العملية إما بسعر محدد وإما بالقطعة، بمعنى أن الترتيبات الإدارية للتسجيل لها سعر، وكتابة رسالة الدكتوراه بسعر، وترتيب لجنة مناقشة مرنة بسعر آخر ... إلخ.
قديما كانت عملية السيطرة على هذه المطاحن سهلة نسبيا، غير أن دخول الإنترنت وثورة الاتصالات قد أدت إلى تغيير سوق هذه المطاحن بصورة هيكلية. فقد كانت تلك المطاحن تعتمد في السابق على وسائل الإعلان التقليدية، وكانت إعلاناتها موجهة للمستهلكين المحليين في السوق الذي تعمل فيه. اليوم تستخدم هذه المطاحن كافة وسائط الاتصال الإلكتروني، واتسع نطاق مستهلكيها من النطاق المحلي إلى النطاق العالمي، وهو ما أدى إلى انخفاض التكلفة الحدية لإصدار الشهادة الوهمية، لذلك أصبحت بعض الشهادات العلمية اليوم لا تكلف أكثر من مائة دولار، بعدها يصبح الشخص مؤهلا كمهندس أو طبيب أو حتى حاصل على درجة الدكتوراه.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية