تتجه عاصفة اللجوء التي اجتاحت أوروبا إلى ما أعمق وأخطر بكثير من دخول مليون شخص إلى القارة العجوز، فقد بات من الواضح أن التداعيات الناجمة عن هذا يمكن أن تمزق الخريطة السياسية التي تؤمن بحرية الانتقال بين هذه الدول الثماني والعشرين، والمعروفة بالـ«شينغن»، أضف إلى ذلك أن العمليات الإرهابية التي كانت بعض الدول الأوروبية مسرحا لها يمكن أن تمزق التوازنات الاجتماعية في الدول الأوروبية، حيث يبدو من الواضح صعود اليمين المتطرف في أكثر من مكان!
ذات يوم قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن «تدفق اللاجئين بهذه الطريقة الفوضوية سيكون في النهاية أخطر بكثير من أزمة اليونان أو الأخطار التي تواجه منطقة اليورو»، لكن عندما فتحت ميركل الأبواب الألمانية أمام اللاجئين، أزعجت الجميع، خصوصا عندما رفضت بعض دول الاتحاد «نظرية الكوتة» في توزيع اللاجئين واستيعابهم، مما دفع ألمانيا في النهاية إلى فرض رقابة مشددة على حدودها مع النمسا، مما ينعكس سلبا على روح فضاء «شينغن» الذي سبق أن أرسى ضمان حرية تنقل المواطنين الأوروبيين وبضائعهم.
وكما فعلت ألمانيا على حدود النمسا، كذلك فعلت فرنسا على حدودها مع إيطاليا، لمنع تسرب اللاجئين من ليبيا، ومع هذه الإجراءات المنافية فعلا لمضمون حرية التنقل، وفق «شينغن»، بدا واضحا أن الاتحاد الأوروبي يتجه سريعا إلى عقدة التوفيق المستحيل بين ضرورات التضامن ومستلزمات الأمن. وقد كان من المفاجئ فعلا أن يقول نائب رئيس المفوضية الأوروبية المسؤول عن تنسيق جهود الاتحاد في أزمة اللاجئين في مركز أبحاث «فريدز أوف يوروب»، فرانز تيمرمانز، إن «ما لم نكن نتصوره من قبل، أصبح للأسف ممكنا اليوم وهو تفسخ المشروع الأوروبي»، وهذا ليس مبالغة، ذلك أن الشكوك والارتياب المتبادل بين دول الاتحاد لم تصل يوما إلى ما أوصلتها إليه أزمة اللجوء الطارئة.
المثير أن ميركل التي أثارت الإعجاب في البداية عندما فتحت أبواب ألمانيا أمام اللاجئين، باتت الآن تواجه ضغوطا قوية من حزبها لإغلاق هذه الحدود، كما أنها خفضت الامتيازات التي كانت تقدمها إلى المهاجرين، واتخذت إجراءات للتعجيل بترحيل أولئك الذين ترفض السلطات دخولهم، لكن كل هذا لم يمنع رئيس وزراء بولندا السابق دونالد توسك، الذي يرأس عادة القمم الأوروبية، من توجيه اتهام غير مباشر ومهين إلى ميركل.
فقد قال أمام اجتماع لزعماء يمين الوسط في مدريد، إن «من يندفعون للاتفاق على حصص المهاجرين قبل تأمين حدود أوروبا جماعة من السذج، وإن موجة المهاجرين تمثل تهديدا يجب التصدي له واحتواؤه والقضاء عليه، ولم يعد مقبولا أو محتملا عندنا أن يتعادل التضامن مع السذاجة، والصراحة مع العجز، والحرية مع الفوضى، وهو ما بات يميز الوضع على حدود أوروبا».
قبل أيام ارتفعت الصرخة من «الكارتل» الصناعي الضخم في ألمانيا، عندما أعرب كبار رجال الأعمال ومديرو الشركات الصناعية الكبرى، عن خشيتهم من أن تؤدي الانقسامات العميقة حول سبل التعامل مع أزمة اللاجئين وتنامي النزعات القومية بين الدول الأعضاء إلى انهيار الاتحاد الأوروبي.
أحد أبرز المؤشرات على أن أوروبا تسرع الخطى نحو التمزق السياسي هو أن يقف رئيس وزراء المجر، فيكتور أوروبان، في مؤتمر حزب «الشعب الأوروبي»، وهو القوة البارزة بين حكومات الاتحاد الأوروبي وأكبر حزب في البرلمان الأوروبي، ويثير تصفيقا حادا نتيجة تنديده بسياسة ميركل التي نادت بالانفتاح، متهما إياها بأنها ستجلب المقاتلين والإرهابيين إلى جانب المهاجرين: «إن أوروبا ثرية لكنها ضعيفة.. وإن أزمة المهاجرين ستحدد مستقبل أسرتنا السياسية، فنحن في مشكلة عميقة، وأزمة الهجرة زعزعت استقرار حكومات ودول بل والقارة الأوروبية كلها»!
ليست منطقة «شينغن» للتنقل الحر وحدها المهددة بالانهيار، ثمة ما هو أهم بكثير من التنقل الحر مهدد بالانهيار، وأعني هنا منظومة الحريات والقيم التي ميزت دائما المجتمعات الأوروبية، وفي هذا السياق يبدو صادما مثلا أن تكشف استطلاعات الرأي العام، التي جرت في فرنسا بعد جرائم «داعش» الأخيرة، أن 93 في المائة من الفرنسيين يرون أن خطر الإرهاب الذي يتهددهم بات كبيرا.
والأخطر من كل هذا أن يقول 84 في المائة من الأشخاص إنهم على استعداد للتخلي عن بعض حرياتهم الشخصية في مقابل ضمانات أمنية، والغريب أن يأتي هذا الرقم من أوساط اليسار الفرنسي، المعروف أنه لا يتسامح إطلاقا في مسألة الحريات الشخصية.
الأمر هنا يذكرني بواقعة معروفة عندنا في لبنان، فقد استمر اللبنانيون إلى الأمس القريب يرفعون الشعار الذي يقول إن «الأمن قبل الرغيف»، بما يعني أنهم يفضلون أن يحصلوا على الأمن ولو كانوا في الجوع، لكن لبنان وصل إلى هذا بعد سبعة عشر عاما من حروب الآخرين على أرضه، بينما لم ترَ فرنسا من هول الإرهاب شيئا قياسا بما شهده لبنان، والمعنى الأعمق وراء هذا أن مجموعة القيم الراسخة في المجتمع الفرنسي خصوصا، والأوروبي عموما، تواجه خطر الاهتزاز وربما الانهيار، بما يعني أن الخرائط السياسية ليست وحدها التي تتعرض لخطر التمزق، بل خرائط الحريات والقيم الإنسانية التي تواجه الانهيار أيضا.
ولا يتوقف الأمر عند هذه الحدود؛ ففي 14 ديسمبر (كانون الأول) الماضي أعلنت مسؤولة اتحادية أمريكية أن تقريرا لوكالة حكومية اتحادية حذر من أن تنظيم داعش لديه القدرة على إصدار جوازات سفر سورية مزورة، وأكدت إدارة الهجرة والجمارك مضمون قصة بثتها شبكة «CNN»، وفيها أن «داعش» يمكن أن يسرق الهوية السورية، لأنه يستطيع الوصول إلى البيانات الشخصية وبصمات المواطنين السوريين، وأنه يمكن أن يساعد هذا المتطرفين على استعمال هذه الوثائق للسفر إلى الولايات المتحدة.
وعندما يقول جون كيربي، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، إن لدى واشنطن علما بهذه التقارير، وإن لدى «داعش» مثل هذه القدرة، ثم يأتي تصريح جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الاتحادي في مجلس الشيوخ، ليؤكد أن المخابرات تشعر بالقلق، لأن تنظيم داعش لديه القدرة على إصدار جوازات سفر سورية مزورة، لكنها تحمل أرقاما وبصمات صحيحة.. لن يكون غريبا أن يأتي هذا ليعمق من الخوف الذي يعمل على تمزيق الخرائط السياسية في أوروبا، وعلى تدمير خرائط الحريات الاجتماعية والديمقراطية، بما يعني استطرادا تصدير نوع من الانغلاق «الداعشي» إلى جوهر القيم الغربية!