أقرت الحكومة الإسرائيلية، قبل أيام، "خطة اقتصادية" تزعم أنها لدعم مجتمع فلسطينيي 48. ولاقت هذه الخطة، على كل ما تحمله من أوهام وخبث وخطورة في الصياغات، واعتداء على الهوية الوطنية الفلسطينية، من يحتفل بها ويحاول ترويجها. فحقوق فلسطينيي 48 المدنية المسلوبة منذ النكبة، لن تجسدها ولو جزئيا، حكومة تتمسك بعقلية التطرف الشرس، وتبحث وتسن باستمرار أخطر القوانين العنصرية. في حين يؤكد الموقف الوطني الثابت لفلسطينيي 48، أن المعركة على الحقوق المدنية هي جزء من المعركة الأساس: حق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال، وإقامة دولته المستقلة، ولا يجوز الفصل بينهما.
تدّعي حكومة نتنياهو أن الخطة ستدفق على فلسطينيي 48 خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعادل 3.8 مليار دولار. لكن هذه أرقام وهمية مبالغ فيها، وهي في أحسن الأحوال مجرد أرقام تقديرية بغالبيتها الساحقة، في إطار "نوايا"، وإعادة جدولة ميزانيات قائمة أصلا في الموازنة العامة. ويؤكد مختصون أن الميزانية الافتراضية لا تتعدى 2.4 مليار دولار، بينما ما يحتاجه فلسطينيو 48 لسد الفجوات الناجمة عن سياسة التمييز العنصري، يقدر بـ18 مليار دولار، كأقل تقدير. ما يعني أن ما تعِد به حكومة نتنياهو لا يساوي شيئا، حتى لو افترضنا أن هذه الميزانيات فعلية، وهي قطعا ليست كذلك.
القناعة السائدة هي أن هذه الخطة الشحيحة، ستبقى وهمية ولن تدخل حيز التنفيذ، كما حصل في "خطتين" سابقتين؛ واحدة في العام 2000، أقرتها حكومة إيهود باراك ورصدت لها مليار دولار لخمس سنوات، وتبخّرت قبل أن يجف حبرها. والثانية، أقرتها حكومة نتنياهو قبل السابقة، ورصدت لها 220 مليون دولار لصرف تخصصي، وهي كسابقتها لم يشعر بها أحد.
ورغم التجربة، إلا أن هناك من يريد تسويق الخطة الجديدة على أنها إنجاز، متغاضيا عن بنود سياسية خطيرة. منها ما أقر به نتنياهو شخصيا، مثل تسريع جرائم تدمير آلاف البيوت بزعم "البناء غير المرخص"، وزيادة محفزات دفع الشبان العرب إلى ما يسمى "الخدمة المدنية" التي تديرها وزارة الحرب، كونها موازية للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال.
كما تبدو الخطورة في بندي التعليم والثقافة اللذين يؤكدان برامج الصهينة للمنهاج العربي والثقافة العربية. ولا تعرض الخطة أي كسر لسياسة الحصار المفروضة على البلدات الفلسطينية التي تعاني من انفجار سكاني، بعد مصادرة ما يزيد على 80 % من أراضي البلدات العربية منذ العام 1948، عدا الاستيلاء على أراضي مئات القرى المدمّرة. وتُبقي الخطة على حرمان البلدات العربية من المناطق الصناعية، وفتح أماكن عمل... والقائمة تطول.
إن سياسة التمييز العنصري التي تنتهجها كل حكومات إسرائيل منذ العام 1948، ليست "خللا في الحكم"، أو تطبيقا لأهواء ساسة عنصريين، بل هي نهج فرضته الحركة الصهيونية، بهدف إبقاء فلسطينيي 48 شريحة اجتماعية ضعيفة تركض وراء قوت يومها. وكل إضافة تقدمها الحكومة في الميزانيات، هي دائما الأدنى في الحد الأدنى، ما يعمّق التمييز العنصري أكثر.
إلا أن أوساطا صهيونية، من أحزاب ومعاهد صهيونية، تحاول بث صورة مختلفة، وتزعم أن التمييز العنصري أو حسب تسميتهم "حالة اللامساواة"، ناجمة عن خلل في الحكم، وأنه بمجرد محادثة الحكومة و"الابتعاد عن التطرف" حسب مفهومهم، بالإمكان تحقيق "التقدم". فالتطرف في قاموسهم، يعني التمسك بالهوية الوطنية والحقوق الفلسطينية، وربط قضية حقوقنا المدنية بقضية شعبنا العامة. وتحاول هذه الجهات الصهيونية التغلغل بين فلسطينيي 48 من خلال بث خطاب مهادن مع السياسة الصهيونية. وتجد من يحاول تجريم الضحية ببؤسها، تماشيا مع خطاب اليمين وزعيمه نتنياهو. أو من يحاول تيئيس الناس من الخطاب الوطني على نمط: "خلص بكفينا مللنا هذا الكلام، نريد التفكير باتجاه آخر، فبالإمكان تحقيق شيء".
لم يتوقف نضال فلسطينيي 48 منذ النكبة، وخاضوا معركة البقاء والحفاظ على الهوية، من خلال التمسك بالخطاب والثقافة الوطنية الثورية، التي أنتجت جيلا وأجيالا صنعت يوم الأرض في العام 1976، الذي شكّل تحولا جذريا في المسيرة النضالية. وهم ينجحون في صد كل خطاب بديل مهادن، لأنهم يدركون خطورته على مستقبلهم.
إن هذه الخطة مليئة بالمخاطر، ويتم تغليفها بالفتات، ولكن التجربة علّمت أن إسرائيل لن تلتزم حتى بالفتات، لتبقي المخاطر وحدها، وتطبقها فعليا.