لما وُلِد سيدنا نزار "الجد السابع عشر للنبي صلى الله عليه وسلم" كان بين عينيه نور، ففرح أبوه وذبح وأطعم، وقال إن هذا لَنَزْر -أي قليل- لِحقِّ هذا المولود، وسُمِّي نِزَارًا.
ولما مر سيدنا عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة فقالت له: لك مثل الإبل التي نُحرت عنك وقَعْ عليّ الآن، وكان قد نُحرت عنه مئة ناقة، فأبى وقال:
أما الحرام فالممات دونه *** والحلُّ لا حِلَّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه *** يحمي الكريم عِرضه ودينه
فلما تزوج بالسيدة آمنة وحملت منه بالنبي، مرّ على المرأة فقال: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ قالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة.
كان صلى الله عليه وسلم نورا في ظاهره وباطنه، وثبت عن الصحابة أنه كان إذا سار أضاءت طرقات المدينة من نوره، وغير ذلك من أحاديث نوره، فأكرمه ربه بنور حِسِّيّ مع نور قلبه الشريف، ولذا قالوا في مدحه: ولا ظِلٌّ له بل كان نورا، وقالوا عن شهر مولده: ربيع الأنور؛ لأن صاحبه كان من نور، وأتى بكل نور ليخرج الدنيا من ظلمة الجهل لنور العلم، ومن فساد العقل لإعماله، ومن فساد القلب لعمرانه، ومن انحراف العقيدة لاستقامتها، "قد جاءكم من الله نور".
إن المحبة في الدنيا تتجه إما لصفات المحبوب، أو عطاياه، كما يفصّل أهل العرفان به صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب أكمل الصفات وأبهاها على الإطلاق، ما منح الله مخلوقا مثلما منحه من جمال الهيئة وطيب الجسد، فكان جميلا تجري الشمس في وجهه، ويضم بين فكيه ثنايا أبهى من اللؤلؤ، وإذا عرق فاح الطيب من جسده، فلا تفسد ريح جسده بالعرق، وكانت راحُه ألين من الحرير، رغم أنه كان يعمل، فجُمعت له كل خصال الجمال صلى الله عليه وسلم.
أما عطاياه فما من عطية أعظم من إنقاذ الروح، أو تنبيهها من عدو خبيث لا يُعلم حاله، أو إنارة العقل بعد ظلمته، ثم المحبة التي تبدو من صاحب جاه وسلطان، لمن لا ينفعونه في شيء ولا يضرونه، وكذا فعل صلى الله عليه وسلم، فأنقذ أرواح أتباعه من عقوبة المولى العليّ، ونبهنا لوساوس الخنّاس الذي لا نراه بأعيننا ولم نكن لنعلم حاله إلا بإخباره لنا عنه، وأنار عقولنا بالعلم وقلوبنا بالإيمان، ثم هو المحب المشفق الوجل على أمته دون احتياج منه لهم واحتياجهم إليه، حتى بعد انتقاله لربه جل وعلا، تُعرض عليه أعمال أمته فإن وجد خيرا حمد الله تعالى، وإن وجد غير ذلك استغفر لنا صلى الله عليه وسلم.
الوقوف في مقام الحديث عنه معجز لصاحبه فلا يقدر عليه، حتى أصحابه رضوان الله عليهم لما أرادوا التحدث عن صفاته، نقلوها بألفاظ شديدة الصعوبة على غير المعتاد في ألفاظهم، وما فعلوا ذلك إلا لأن مقام التحدث عنه مقام هيبة، يُفقد صاحبه الألفاظ الهينة، لأن وصفه لا يقدر عليه أحد لكماله وجلاله صلى الله عليه وسلم، فتحدثوا بتلك الألفاظ المسماة بالألفاظ الوحشية.
نبينا المكرم ترك لهذه الأمة تراثا واسعا من العلم والتراحم وسعة الفهم، وأبدلنا ذلك لتراث محدود وشحناء وضيق فهم، واليوم تقف هذه الأمة أمام تلك الأمور متجاذبة بين التشدد والتفريط، تدّعي داعش أنها تحمل تراثه، وما حملته بل أساءت إليه، وتدعي المؤسسات الرسمية حملها له، وما حملت منه سوى النقول وتنكرت بالفعال؛ فهي لا تتراحم مع غيرها من الجماعات التي تسخط عليها السلطات، ولا تقف تلك المؤسسات أمام سلطات نافرة من الالتزام بأوامره صلى الله عليه وسلم.
أهالوا على تراث النبي التراب، فخوّفوا الناس من شريعته، وكذا فعل من زعموا أنهم حملتها بسوء سلوكهم وتدبيرهم، ونتج عن ذلك أن وجدْنا مؤمنين برسالته يخافون من قبول التشريع الديني في أمور الدنيا لاعتبارات مختلفة.
إن العادة في مثل تلك المناسبات، تقارب المعنيين بها ومن لديهم قواسم مشتركة في ما يحتفلون به، لكن عندنا تجري العادة على إثارة التنازع والشقاق، ودعوى البعض احتكار الوصال مع التراث وصاحبه الكريم، لنثير شفقته بدلا من ابتهاجه بأمته، ومن أراد الوصل معه واتباع منهجه، فلن يجد أحسن من التحبب إليه بجمع شمل أحبابه وأتباعه.
يا رب هبت شعوب من منيتها *** واستيقظت أمم من رقدة العدمِ
فالطف لأجل رسول الله بنا *** ولا تذق قومه خسفا ولا تَسُمِ
يا رب أحسنت بدء المسلمين به *** فتمم الفضل وامنح حسن مختتمِ