الفرضية الخاطئة والمغلوطة، التي قام الإعلام المصري المؤيد للانقلاب العسكري بترويجها غداة الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، تتمثّل في أنّ تنظيم "أنصار بيت المقدس" هو امتداد لتنظيم الإخوان المسلمين.
لم تكن تلك الفرضية خاطئة عن جهل، بل عن علم. لكن ضرورة المواجهة مع "الإخوان" كانت تقتضي شيطنتهم وزجّهم في صف "التنظيمات الإرهابية"، وهو التصنيف الذي اعتمده المعسكر المحافظ العربي للتخلص من ثورات "الربيع العربي" والقوى الإسلامية الصاعدة.
تمّ الزج بالإخوان في السجون والمعتقلات، والتنكيل بهم وبأنصارهم. ونجح المعسكر المحافظ العربي في إعادة ترميم النظام السلطوي في مصر، ودُفعت من أجل ذلك مليارات الدولارات على الاقتصاد والإعلام والدعاية. لكن في النتيجة، فإن هذا المشروع القديم لم ينجح استراتيجياً -بالرغم من أنّه نجح تكتيكياً- في تخليق الشرعية السياسية. والدلالة على ذلك الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تمثّل أكبر انتكاسة سياسية للنظام الجديد، وعودة الإسلام بنسخته المتطرفة المعادية للإسلام الديمقراطي عبر "داعش مصر" (بعد أن أعلن "أنصار بيت المقدس" المذكور تأييده لما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية"). وتحولت سيناء إلى حاضنة اجتماعية للحركات المتشددة، التي امتدّ تأثيرها إلى محافظات أخرى في مصر. وأخيراً، تذهب الفرضيات حول سقوط الطائرة الروسية في سيناء إلى وجود عمل خارجي، ما يغيّر قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها.
وفي المقابل، فإن الوصفة الذهبية التي حاربتها وصارعتها الأنظمة العربية، هي تلك التي نجحت نسبياً في تونس. فبالرغم من كل المصاعب والعوائق، وبالرغم كذلك من آلاف الشباب التونسي الذين انضموا إلى "داعش" (لخيبتهم من وجهة حزب "النهضة" التوافقية)، إلا أنّ المسار يمضي إلى الأمام سياسياً، ويحتاج إلى جهود اقتصادية موازية ليتحقق النجاح.
"اللعبة المصرية" كان يراد تطبيقها في تونس عبر "نداء تونس". لكنّ براغماتية راشد الغنوشي ورفاقه حالت دون تكرار ذلك، فأخذوا بالنموذج التركي بالواقعية الشديدة.
صحيح أنّ النموذج المغربي مغاير بطبيعته، وما يزال "المخزن" يملك شروط اللعبة، ما يعني عدم التحول النوعي نحو اللعبة الديمقراطية، إلا أنّها أيضا تجربة نجحت في تجاوز أزمات متعددة والخروج من عنق الزجاجة، والبحث عن خطوة جديدة للعبور الديمقراطي.
في كل الحالات الناجحة، كان الإسلام السياسي الديمقراطي شريكاً في العبور والتحول والانتقال إلى المرحلة التالية. ولولا توافر هذا النموذج، لبقيت تلك البلاد في دائرة مغلقة أو تعاين الأزمات البنيوية القائمة، أو تواجه الوجه الآخر من الإسلام السياسي ذا الطابع الراديكالي، المسكون بالشباب الغاضبين المحتقنين لأسباب مرتبطة، بدرجة أولى ورئيسة، بانسداد أفق التغيير السلمي والتعبير عن الذات والتوجهات.
النظام العلماني الذي يمكن أن يتحمل هذا النمط من التعايش ليس هو النظام الكمالي (نسبة لكمال أتاتورك) -الذي يتغنّى به بسطحية بعض المثقفين العرب- بل هو النظام الذي يمكن أن يتصالح ويتعايش مع الإسلام السياسي. والعلمانية التركية اليوم التي يتعايش معها حزب بميول إسلامية محافظة، مثل العدالة والتنمية، لا تمتّ بصلة لتلك التي أسسها أتاتورك سابقاً في تركيا، وكانت تقوم على استبعاد الدين بالكلية.
لكن الأهم من هذا وذاك أن المثقفين العرب المعجين بالنمط "الكمالي" العلماني الحادّ، يقفزون عن حقيقة مهمة، تتمثل في أنّ العداء للإسلام السياسي اليوم ليس مبعثه أنّ الأخير "يستبطن" بعداً دينياً -فالنظام المحافظ العربي يتشدد أكثر منه في المسائل الدينية- بل لأنّه يمثل المنافس الأول للأنظمة السلطوية والقوى الصاعدة في المنطقة.
النظام المصري، ومثله كل نظام سلطوي، مستعد أن يتحالف مع تنظيم متشدد دينياً، سلفي، مثل حزب النور، فالمعركة هي معركة التغيير والقاطرة الديمقراطية، وليس الخشية الخادعة من حركات الإسلام السياسية!