جرت عادة الديمقراطيات الحديثة أن ينسحب من المشهد كل من فشل في تحقيق أهداف مرحلية صاغها لحزبه السياسي، ودرجت عادة السياسيين الذين يحترمون قواعدهم الحزبية ويعملون في بيئة ديمقراطية حقيقية وبمنهج تمثل الشفافية والمحاسبة ركنا ركينا فيه أن يقدموا اعتذارا لقواعدهم الحزبية، وأن يختفوا من المشهد بسلاسة تاركين المجال لغيرهم.
وبالطبع لأن مجتمعاتنا الشرقية لا تزال تمر في مرحلة الديمقراطية الطفولية، وبعضها تخطاها لمرحلة المراهقة السياسية إلا أنها لم تصل بعد لمرحلة الرشد الديمقراطي بآلياته وأدواته وتطبيقاته. الجمهورية التركية ورغم خوضها لغمار المعترك الديمقراطي بكافة أشكاله منذ فترة من الزمن إلا أنها لا تزال تسير ولكن بسرعة قاطعة مراحل متعددة على طريق الوصول لنموذج ديمقراطي كامل.
بلغة الأرقام والنتائج، فقد فشلت أحزاب المعارضة التركية، وخاصة القومية منها، فشلا ذريعا في الانتخابات التركية الأخيرة، إذ خسر حزب الحركة القومية (MHP)، تركي النزعة، 40 عضوا من إجمالي عدد أعضاء البرلمان الحالي، أي أنه قد خسر صوت 1.8 مليون ناخب، بينما خسر حزب الشعوب الديمقراطي (MHP)، كردي النزعة، 18 مقعدا أي أنه خسر صوت ما يربو عن مليون ناخب، بينما زاد حزب الشعب الديمقراطي الأتاتوركي (MHP) 600 ألف صوت، وأضاف اثنين من النواب إلى نوابه السابقين. هذا في حين أن حزب العدالة والتنمية (AKP) الحاكم قد أضاف 69 نائبا جددا بفوزه بثقة 4.8 مليون ناخب مقارنة بالانتخابات السابقة.
بموجب هذه النتائج، والتي تظهر فشلا حقيقيا للأحزاب القومية المعارضة، فإنه يتوجب على رؤساء هذه الأحزاب وخاصة بعد هذا التراجع البين في ثقة الناخبين، بالإضافة إلى ارتفاع أصوات المنتقدين لهم بين قواعدهم الحزبية، بل وحدوث بعض الانشقاقات في دوائر حزبية متباينة وبنسب متفاوتة، فإنه يتوجب عليهم أن يتقدموا باستقالتهم، بل واعتزالهم للمشهد الديمقراطي كما كان يعد بعضهم في حال قلّ عدد ناخبي حزبه!! وليس في حال فشل في تشكيل الحكومة!!
وقد تشهد الحكومة التركية مثل غيرها من الدول اخفاقا في بعض الملفات، ولعل قضية الفساد التي تزامنت مع محاولة الانقلاب التي أفشلتها الحكومة التركية قبل عامين تقريبا مثال حي، فقد أشهرت المعارضة برؤسائها سيوف انتقاداتهم في وجه الحكومة وخاصة ضد رئيسها آنذاك، الطيب أردوغان، مطالبة إياه بالتنحي لاتهام أربعة من وزرائه بالفساد والرشوة. أعقب هذه الحملة المسعورة من المعارضة إقالة أربعة من وزراء حكومة العدالة والتنمية والتحقيق معهم. وجدير بالذكر أن أيا منهم لم تثبت بحقه أي من الاتهامات الموجهة لهم حتى يومنا هذا، ولكن اقالتهم جاءت وقتها نزعا لفساد أكبر في حال الابقاء عليهم إبان تلك الحملة المسعورة الممنهجة ضد أردوغان وحزبه.
عندما وجه أحد الصحفيين سؤاله لدولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية، "لماذا لا تستقيل من الحزب، وتترك القيادة لغيرك؟" امتعظ وجه الرجل وأجاب بحدة، "هذا ما يحلم به – يقصد أردوغان – وأنا لن أحقق له حلمه فلا تنسج على منواله". كان دولت بهتشلي أو ما يلقب الآن في تركيا بـ"Mr. No" أو "سيد اللاءات" هو من ساهم بعناده وقصور نظره السياسي في خسارة حزبه خسارة فادحة، وبانتقال أصوات ناخبيه إلى العدالة والتنمية. رفض "بهتشلي عرضا من العدالة والتنمية لتشكيل حكومة ائتلافية، ورفض أيضا عرضا مماثلا من حزب الشعوب الديمقراطي، ورفض المشاركة في حكومة الانتخابات المؤقتة، ما أدى حينها إلى انشقاق ابن زعيمة المؤسس "طوغرول تركش" وانضمامه للعدالة والتنمية نائبا لرئيس الوزراء داوود أغلو، وهو ما كان سببا أساسيا في تصدع البيت الداخلي في الحزب.
لا شك أن بهتشلي بهذا التصرف السياسي قد أطلق رصاصات لاءاته على رأس مستقبله السياسي، ولعل نتائج الزلزال الانتخابي تخبئ له مفاجأت عدة في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، وخاصة عند انعقاد جمعية الحزب العمومية التي يرى المراقبون أنها ستحرم بهتشلي من رئاسة الحزب أو قد تؤدي إلى تصدعات أكبر في البنية الحزبية برمتها.
أما بالنسبة لرئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلتشدار أغلو، فقد كان يطالب الحكومة ورئيسها بالتنحي عقب أي عملية إرهابية أو أي اخفاق في أي ملف كان خدميا أو سياسيا. ألم يسمع بقول الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
لماذا لا يتنحى زعيم المعارضة بعد فشله في الوصول إلى أغلبية لتشكيل حكومة وطنية؟
"لن يكون تنحي السيد "كمال كلتشدار أغلو" في مصلحة الاستقرار الحزبي!!!" هذا ما صرح به دنيز زايراك أحد الصحفيين المقربين من كلتشدار أغلو، مشيرا أن الأخير لا "ينتوي" الخروج من المشهد السياسي، وأنه يرى نفسه الأقدر والأفضل لقيادة حزبهم المرحلة الراهنة ،ولا يرى أن فشله في الحصول على أغلبية تخوله من تشكيل حكومة وطنية يستدعي منه أن يستقيل أو أن يُقال من حزبه. أين انتقاداته اللاذاعة ومطالباته المتكررة بافساح المجال أمام القيادات الشابة التي طالما صدع آذانهم باتاحة الفرص لهم والعمل على تمكينهم لممارسة أعمال حزبية قيادية؟!!
ستُحدث ارتدادات الانتخابات التركية الأخيرة تأثيرا جذريا في بنية المعارضة التركية، وستدفع المعارضة بشتى أطيافها إلى إعادة النظر في أجندتها وبرامجها وتحالفاتها وخاصة عند الأخذ في عين الاعتبار أن العدالة والتنمية منفردا قد حصل على 23.673.541 من أصوات الناخبين، بينما حصلت أحزاب المعارضة الثلاثة مجتمعة على 22.947.410.
نجح العدالة والتنمية في شق صفوف المعارضة واستقطاب شريحة لا بأس بها من جمهور الحزبين القوميين، الحركة القومية "التركي"، والشعوب الديمقراطي "الكردي". بينما حافظ حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي على ناخبيه بواقع 12.109.985 صوت. قد سبق وأن اتحدت قوى المعارضة على اختلاف أيدولوجياتها ومنطلقاتها على مرشح رئاسي هو أكمل الدين إحسان أغلو. عندما يكون الخصم الطيب أردوغان تُلغى الاختلافات الأيدولوجية، ويتم تجاوز كل العقبات والتباينات الحزبية، ويقدم الاصطفاف أمام النموذج الأردوغاني القادم بقوة، ولعله السبب ذاته الذي سيكون دافعا أما أحزاب المعارضة للاصطفاف مرة أخرى في وجه معركة الدستور القادمة.
كانت هذه بعض آثار وارتدادات الزلزال الانتخابي في صفوف المعارضة التركية داخليا، ومما لا شك فيه أن لهذا الزلزال توابع ستهز المنطقة العربية قريبا وقريبا جدا بإذن الله.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربى21"