مدونات

كأن لم يَسمر بمكة سامر (2)!

محمد ثابت
محمد ثابت
صرتُ من كثرة المحبة وفيض الأشواق وطوفان الأنس المفتقد لوطني أتخيلني شجرة مهاجرة عن ترابه بغير إرادتها، وفي المنام أتخيل أن هناك إمكانية لأن يأتي الوطن حتى أعتابي.. يلومني لأنني فرطت فيه وتركتُه، وكأنه كانتْ هناك فرصة، ولو ضئيلة الضوء، متاحة لي لئلا أفعل، أتخيل إنني في غابة متهادية القدوم إلى أعتابي.. متلألئة بأفق فيروزي من كثير ضوء للشفق.. كي أكون في اللحظة ذاتها.. على الحد الفاصل، المزلقان، الذي كان خطا للسكك الحديدية في قديم.. 

الحد الفاصل بين حيّ بولاق والمهندسين في نقطة نادرة، عنده كما الحد الفاصل بين "صندفا بني مزار" والبهنسا.. مدينة الشهداء في الجنوب، مثل الحد الفاصل بين الطور وجبل موسى، هناك مع إشراقة الصباح كنتُ آكل طعاما من منّ وسلوى، من شهد مُذاب..  يحيلني إلى حياة أولى.. ألا أنعش الله ذكراها..

الليلة الأولى من ذهابي إلى "مدرسة القومية الابتدائية الخاصة المشتركة" ببني مزار، أبي الحبيب.. أعز وأسمى الذين رأتهم عينيّ من البشر والأشياء، أبي مات في مثل عمري الآن، وأشعر بأنني سرقتُ عمره من بعده، وعشتُ بالزيادة، أبي من فرط محبتي له وفيه تخيلتُ إن عمره أفلتْ بمجيئي، كل يوم منه كان سمكة صغيرة تصطادها شبكتي، ابن يكمل عمر أباه ككامل دورة البشرية..

أما ذكراه في الليالي غير المُقمرة فتذكرني بأمنية قديمة حينما ودعني نهائيا دون موعد، مثل غروب شمس الشتاء في عصر صيف، مثل وفاة ملكة نحل بعد أن أبدعت أفضل قطرة عسل، لما قلتُ يلزمني منك لقاءات ثانية ..قلتَ لي قبيل انقضاء الأنفاس..  وكنت لحداثة عمري لا أعرف إنها تنقضي:

ـ في الجنة سوف تلقني ما لم تخن الله.. فيستحيل لقاءنا في الدنيا والآخرة.. إن فعلتَ لا قدر الله!

عند أول يوم من أيام الدراسة أيقظني قائلا:

ـ بالعلم سنلتقي حتى بعد وفاتي !

في الليالي الطويلة الباردة هنا ألتقي وصايا أبي، وقبلاته، ضحكانه، جميل انتظاراته، ووصاياه ..

لم يعد لدى الأحياء من الأوقات هاهنا ما يكفي، ثم إن السماجة في أسمى معانيها ليست أن تغدر بمقيم بل أن تغدر بغريب جعل الله بعضا من حار دماء قلبه لديك، والبعض لم يعرف الخيانة في الصغر ولا في الكبر فعرفها قرب نهايات العمر، كما الكتاب..  والرواية التي تم تمزيق صفحاتها عند أجمل الصفحات.. نلتقي هؤلاء هنا، ولله في لقائتنا بأشخاص ما كان لنا أن نلتقيهم حكمة تدق وإن خفتْ علينا، فما يمرون بنا إلا في أوقات شدة قضاء وأقدار، ردهات للخيانة يفتتحها هؤلاء في قلوب الثوار، ولهم تاريخ وماض حقيقان مزهران في خدمة قضايا الخير والبشرية فلما واتتهم آفاق الخيانة..  ببساطة وفي متاهة العمر الأخيرة..  خانوا..  بل وأفرخوا مثل العقارب ..صغارا داخل أجوافهم ..

هل كان يدري الساذج منك وهو يغادر مطار القاهرة، وهو يتذكر كلمات "جدته زينب" بنت الشيخ حسن رضوان، وهل يغني عنها النسب النبوي العالي الغالي، اللهم ارحمها، كانت دائما ما تقول بقرب أذنيه..  صغيرا لأبيه:

ـ لا تسافر يا بنيّ..  نحن أناس إن خرجنا من مصر نموت آخر حدودنا المطار والموانئ!

لم يكن يجيء إلى المطار في المرة الأولى ولا يظنها الأخيرة، لكنها كانت مرة بالغة المرارة، يقطع بيديه سنيَ عمره الماضية، ويُغلقُ على نفسه باب سنيّ عمره كلها، ولا يعرف هل يَلقى أسرته من بعد أم ماذا؟ وهو لا يستطيع حتى وداع والدته في مسقط رأسه، كل شيء تمت "دبلجته"..  دبلجوا الكلام العربي، ونسوا إنه لا يدبلج! وهو هناك كانت أقصى نقطة من تكوينه إذ لا يستطيع إخبار أصدقائه لأول مرة في حياته عن وجهته، إذ يخبره صديقه الأعز:

ـ أولاد الحلال كثير..  فلا تخبر أحدا فإنما نحن كمن يتم اللعب بهم لعبة "صلَّح" ولا يدرون من أين تأتيهم الضربة!

ظل لساعتين في عميق تفكيره إنه إنما يفعل هذا لله..  تلسع الدمعة المجرى الداخلي بين الأنف والعين أم تستكين؟! 

يرى الآخرين يشترون السجائر من السوق الحرة فلا يدري كيف تواتيهم الحياة بهذه القدرة على الاستهانة بالظلم في بلده، لما صعد الطائرة أخذ يطمئن الأهل ومحركاتها تشتعل إنه بخير..  ويخبر الأصدقاء إنه قد لا يراهم ثانية، يشكر الذين استضافوه في شقته، وهل ينسى زوجته المصابة لما استهان ضابط الجيش جاره بتظاهرة مرت قريبا من عمارتهم؟ وكانت مقعدة في سرير الإصابة..  جرحها جديد، فتحت شباك الحرية وقالت له:

ـ إنما ترتضي راتبك من دمنا..  وتسبّنا!

يومها لم يزد على أن قال:

ـ دعوا لي زوجها قليلا له حساب معي!

لم يخف على نفسه وإنما خاف على المخلصة المسكينة زوجته منذ "لما" في انتخابات الرئاسة الإعادة قال له ولها أصحاب المزارات السياحية في حيّهم:

ـ والله لن تكسبوها.. ولئن أعزتكم اللجان اليوم فلن تنفعكم غدا.. أنتما قادمان إلى الخليج.. تحرينا عنكما.. عودا إليه أو تمتعا بماله ودعوها لنا!

كان يعرف إن أوان ازدهار مصر لم يأت بعد.. ولكن كيف له أن يترك الشرفاء يتعذبون؟ ولا يحاول معهم ..ربما أجدتْ المحاولة..  ويجلس في بيته.. ولما حدث الانقلاب علم أن القوة الدنيوية حتى حين في يد الجيش.. ولكن كيف يدع الشرفاء.. ويجلس في البيت؟!

أبلغ الأصدقاء إنه لا حاجة له بمفاتيحهم الخاصة بترحاله.. ستأتيهم في بيوتهم مصحوبة بشكر عميق، أبلغ زوجته شكره وأوصاها بشراء جهازيّ هاتف حدثيين وإرسال أحدهما إليه ليستطيعا التواصل عبرهما.. 

يتذكر لحظات بالغة المرارة لما سقطت زوجته برصاص الجيش.. لما بكت ألا يتركها.. لما خاف أن يحملها حتى صرخ به شاب.

ـ تخشى حملها ليصيبها القناص في رأسها بعد قدمها، يا باش مهندس، الخوف أضاع جيلكم.. أرفعها لئن تركتها ليصيبنها ثانية!

فوق دماء هؤلاء.. وفوق مرارات أيامه وانتظاراته هاهنا وهناك.. ورجائه الثواب من الله يحيا الأوغاد والمندسون من صاحب التصريحات الأمر في تاريخ الشرفاء..  واعتراف الحرق الذي لا يحدث..
ولنا عودة.. إن كان في العمر بقية!
0
التعليقات (0)