تُجمِعُ أدبيات عِلم الانتقال الديمقراطي Transitologie على أن إنجاز عملية البناء الديمقراطي تحمّل أصحابَها كلفة ذات أوجه متعددة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، نفسية وثقافية. وهي في عمومها أوجه متكاملة على مستوى الأهمية، وإن تباينت من حيث الأولوية وعمق التأثير. وفي الحالة التونسية، تبدو الكلفة الاقتصادية الأكثر بروزا وثقلا على حال البلاد والعباد.
زرت تونس عشرات المرات، قبل الـ14 من كانون الثاني/ يناير 2011 وترددت عليها مرات كثيرة بعد هذا التاريخ، وأخال نفسي أنني أعرف هذا البلد الشقيق جيدا، لكن حين حللت به قبل عشرة أيام، انتابني حزن خاص لما شاهدت، ولاحظت واطلعت وسمعت. أحزنتني حركة المطار شبه المتوقفة، وهي الصورة الأولى التي تُلفِتُ انتباهَ القادم لأي بلد. وأحزنني منظر الفنادق والمقاهي ذات الاستقطاب السياحي، وأحزنتني المدينة العتيقة التي دأبتُ على رؤية السياح من كل وجهة يتزاحمون في أزقتها الضيقة لاقتناء مشتريات أو زيارة المآثر، وهي كثيرة. أما أحاديث الناس البسطاء فكلها تدور حول شُحّ الإمكانيات وغلاء المعيشة. وحتى النخبة المفترض فيها مقاربة الأوضاع بآفاق أوسع وتفاؤل أكثر، دبّت نزعة الهجرة في صفوفها.. فقد أطلعني زميل جامعي على العدد المتزايد للأكاديميين الذين تركوا البلاد بحثا عن الرزق وسعة العيش.
ليست الحالة التونسية فريدة من حيث الانكماش الذي أصاب اقتصادها جَرّاء سيرورة الانتقال الديمقراطي التي شهدتها البلاد، فقد سبقتها دولٌ عديدة، وربما بمستويات أدق وأخطر. تحضرني، في هذا السياق، دول شبه الجزيرة الأيبيرية الثلاث: البرتغال، إسبانيا، واليونان، خلال سبعينيات القرن الماضي. ففي أعقاب نجاح ثورة القرنفل و سقوط حكم "سالا زار" عام 1974، عاشت البرتغال وضعا اقتصاديا وماليا مؤلما وقاسيا، أدى إلى انخفاض مُروع في معدل النمو الاقتصادي، الذي تجاوز قبل الثورة عتبة 6% وعجز في الميزانية وصل 15% من الناتج الداخلي الخام، أما الميزان المالي فعرف أسوأ أحواله في تاريخ البرتغال، ومع ذلك نهضت البرتغال من كبوتها، ولقيت دعما أوروبيا كبيرا ألحقها بركب قريناتها من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
لاشك أن تونس قدمت نموذجا مميزا للانتقال السلمي إلى الديمقراطية، حيث توافقت نخبها خلال أربع سنوات في بناء أهم المؤسسات السياسية، من دستور جديد (2014)، ونظام أقرب إلى البرلماني منه إلى الرئاسي، وهيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات، كما فتحت ملف الفساد وسبُل مكافحته، وفوق هذا وذاك تمكنت من تجنب انقسام المجتمع وحافظت على وحدته واستمراره متضامنا وحاميا للبناء الجديد. لذلك، حظيت رباعيتها بجائزة نوبل للسلام تقديرا لجهودها في الحوار وإدارة الاختلاف بدرجة عالية من السّلمية والمدنية. وبعد النظر.
ولأن التغيير نحو الأفضل حمّال بطبيعته لردّ الفعل والمقاومة السلبية، فقد كان منتظرا أن تستهدف أكثر القطاعات إستراتيجية وحساسية بالنسبة للنسيج الاقتصادي التونسي، أي السياحة وما يرتبط بها، عبر عملتين إرهابيتين متقاربتين شهري آذار/ مارس وحزيران/ يونيو 2015. وإذا تذكرنا أن النظام المنهار ترك نموذجا تنمويا هجينا، مفعما بالاختلالات الاجتماعية والمناطقية، منخرا بالفساد، فليس غريبا أن يصل متوسط البطالة على المستوى الوطني 16%، بل تراوحت نسبته في بعض الجهات (المحافظات) ما بين 35% و40%. لذلك، وعلى الرغم من القروض والتسهيلات المالية التي أتاحها البنك الدولي لتونس، فإن وتيرة الاقتصاد والإنتاج ظلت ضعيف، وعزَّ على الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام إعادة الثقة في نفوس المستثمرين، وحفزهم على ضخِّ أموالهم في النسيج الاقتصادي التونسي.. بل إن البنك الدولي ما إنفك ينبه إلى مواطن الاختلال وفي صدارتها كتلة أجور الموظفين التي تلتهم 13% من الناتج الخام الوطني، علاوة على ظاهرة التهرب الضريبي، والفساد، والتهريب. والواقع أن مؤسسات القرار الاقتصادي والمالي التونسي، لم تتردد في الوقوف عند التحديات التي تواجه الاقتصاد وتعقد آثاره على العملية السياسية والنسيج الاجتماعي بشكل عام. فالتقييم الذي قام به البنك المركزي التونسي للشهور المنصرمة من العام 2015، كشف عن وجود تراجع متزايد في الاستثمار والإنتاج في القطاعات الصناعية والسياحية، وتاليا في مجال التصدير.
سألت صديقا تونسيا عارفا بأوضاع البلد عن رأيه في مستقبل تونس، وعما إذا كانت للحكومة الحالية إستراتيجية واضحة وفعالة لتجاوز واقع الانكماش الاقتصادي والمالي، فكان جوابه أن حكومة "الحبيب الصيد" "لا تحكم بقدر ما تدير الشؤون العادية يوما بيوم".. لذلك، يحتاج الانتقال الديمقراطي في تونس كي يتعمق أكثر، وتتوطن قيمُه، أن توازيه حلحلة اقتصادية، وانتعاش مالي، يفتح للمجتمع أبواب الثقة والأمل في أن الإكراهات الاقتصادية والضغوطات المالية عابرة، وأن البناء الديمقراطي سينتج آثاره، وستكون له انعكاسات إيجابية على أحوال الناس ومعيشتهم.
ربما من سوء حظ تونس أن بناءها الديمقراطي تحقق في سياق إقليمي وعالمي موسوم هو الآخر بعدم الاستقرار، والانكماش الاقتصادي، والأزمة المالية. وإلا كيف كنا سنتصور وضع تونس لو كان محيطها المغاربي والعربي مستقرا وآمنا، وجوارها الدولي في رخاء ووفرة اقتصادية ومالية..إنه دون شك سيكون سياقا داعما للتجربة التونسية.