أقرأ لـ "عبد الله السناوي"، لأعرف رأي "هيكل"، وأقرأ لـ "هيكل" لأقف على توجهات السيسي. وعندما هاجم الكاتب الكبير المملكة العربية السعودية، كان هجومه كاشفا عن عمق الأزمة بين النظام الانقلابي في مصر والنظام السعودي، وهي الأزمة التي تسعي أطرافها لسترها بطرف الثياب وبالتأكيد على عمق العلاقة بين البلدين.
يكتب "السناوي" آراء "هيكل" التي يتحرج من إبدائها لعبد الفتاح السيسي، ويريد أن يوحي له بأنها تعبر عن الرأي العام، وهذا لا ينقص من قدر "السناوي" ككاتب متميز تشغله المعلومة، قبل أن ينشغل بتحليلها، وأنا أهتم بمقالاته للحشد المعلوماتي الذي يميزها عن موضوعات الإنشاء التي يكتبها "عبد الحليم قنديل"!.
بعض الكلام قد يكون ثقيلا، فلا يقوله "الكاهن" لـ"الفرعون"، ولدي تحفظ شديد على وصف "عبد الفتاح السيسي" بأنه "فرعون"، فأعتقد أن هذا مما يسيء لفرعون رغم رأينا السلبي فيه، فالتشبيه هنا مما يحط من قدر فرعون على ضلاله. تماما كما لا يجوز أن يشبه السيسي بأبي جهل مثلا، الذي رفض القفز على بيت الرسول في ليلة الهجرة، وقال: "حتى لا تقول العرب إننا فزعنا بنات محمد"!.
"هيكل" كما وصفه "صلاح عيسى" في مقال نشر بمجلة "الهلال" وكان سببا في القطيعة رغم العلاقة التي ربطت بينهما منذ أزمة كتاب "خريف الغضب"، هو "كاهن" يبحث عن "فرعون". ولما لم يجده حاول صناعته، فكان فرعونه، "على ما قُسم"، وما جادت به الطبيعة. وهو منذ أن تسبب كلامه المباشر مع السادات، في سخرية السادات منه، وكشفه لأغواره، فقد أخفى في نفسه ما الله مبديه، فهو يتحاشى الكلام المباشر، حتى وإن كان "فرعونه" صنعه على عينه، وحرضه على الانقلاب، وكتب له خطبه التي ألقاها من أول بيانات التحذير، إلى بيان الانقلاب، إلى طلب التفويض، ثم ذهب يشيد بهذه الخطابات، ويعتبر جودة الصنعة تدل على الثقافة الرفيعة للرئيس "الخطيب".
لقد فكر "هيكل" في بداية حكم الرئيس السادات في السيطرة عليه، فظل، والعهدة على السادات، يخبره بأن مصر في خطر، وكان الرئيس يتجاهل ما يقول، ولم يمل الكاتب الكبير، وفي النهاية حقق له رغبته عندما سأله: "وما العمل يا محمد؟"، عندها تمدد الكاتب في المجال الجوي للحاكم، وأخبره أن مؤسسة "الأهرام" التي يرأسها يوجد بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وبه خبراء كبار في كافة المجالات، يمكن أن يعهد إليهم بكل ملفات الدولة لبحثها ووضع الحلول اللازمة للمشكلات التي تعاني منها مصر!.
بعدها ظل السادات، بحسب قوله، كلما التقى بالكاتب الكبير يسأله ساخرا ومستهزئا بعد أن كشف رغبته في السيطرة والتحكم: "إيه أخبار الخبراء يا هيكل"؟!.
وقد حدثت القطيعة بين السادات وهيكل لأسباب عدة، على رأسها تأخر الكاتب الكبير في إعلان موقفه ممن أُطلق عليهم مراكز القوى، إلى حين أن انتصر عليهم السادات، فكتب هيكل ستة مقالات، أساء فيها لحكم عبد الناصر أيما إساءة، وكتب عن جلسات تحضير الجن، لحكم البلاد؛ إذ كان رجال عبد الناصر يحضرون هذه الجلسات، للوقوف على نصائح العفاريت لهم لتسيير شؤون الدولة، والحصول بما يطمئن فؤادهم على مستقبلهم السياسي في هذه الجلسات التي نشر هيكل تفريغا لجانب منها!.
في كتابه "50 عاما في قطار الصحافة" كتب "موسى صبري"، أن الرئيس السادات سأل هيكل عن سبب تأخره في الكتابة عن مراكز القوى، فقال مازحا بما لم يعتبره الرئيس مزحا، وإنما تعامل معه على أنه الحقيقة التي ظهرت على لسانه رغما عنه: "لقد انتظرت إلى حين أن أعرف من سينتصر"؟!، فأسرها السادات في نفسه، إلى أن كان ما كان.
لم ينجح "هيكل" في أن يكون كاهنا للفرعون الجديد "مبارك"، وحاول مع مرسي، لكن لخلاف الجينات المكونة لشخصية كلا منهما فإنه لم ينجح، مع أنه قدم نفسه "كاهنا" وقال في مرسي بعد اللقاء الأول والأخير شعرا، فكان الخيار هو السيسي: "صنعة ايديا وحياة عنيا"، كما تقول ممثلة الإعلانات في الدعاية لنوع من السمن، وهي تقدم الطعام الذي استخدمت فيه هذا المنتج الذي تسوق له.
وقد تحول "هيكل" بعد كل هذه العمر، إلى مجرد أداة ابتزاز في يد السيسي، يرش بالنار من يرشه بالماء، ويهجو من يبتعد عنه بهدف حمله على العودة من جديد لدائرة القرب، فعلها من قبل مع دولة الإمارات، وها هو يفعلها مع السعودية، وهو دور أقرب لما تقوم به الصحافة الصفراء في ابتزاز رجال الأعمال والشركات، بهدف حملها على الإعلان بها. والابتزاز هنا وهناك يهدف ضمن ما يهدف للحصول على ما تيسر من "الرز"!.
بدت الإمارات غير مرحبة بفكرة أن يصبح السيسي رئيسا، لاعتقاد أولي الأمر فيها ورعاة الانقلاب، أن الأوضاع لن تسير إلى الأفضل إذا صار المذكور رئيسا لمصر، ورأت أن الحل في شخصية أخرى، ليست متورطة في المذابح، لأنها ستكون الأقدر على رأب الصدع في حده الأدنى بما يساهم في نزع فتيل التوتر، ليحدث الاستقرار، الذي يحقق استغناء مصر عن "الرز الخليجي"، لأن الخليج لن يستطيع تقديم المنح لسنوات، وفي النهاية "خذ من التل يختل"!.
وخرجت من الإمارات تصريحات علي لسان بعض القادة، تشير إلى أنهم يرون من الأفضل أن يظل السيسي وزيرا للدفاع، لحماية كل العرب. وكان لدى القوم خيارهم متمثلا في الفريق أحمد شفيق!.
وظل السيسي لهذا فترة ليست بالقصيرة مترددا في حسم موقفه، ولهذا حصن موقع وزير الدفاع في الدستور لظنه أنه سيستمر فيه، وبالنص الذي استفاد منه وزير الدفاع الحالي، ويفكر السيسي كثيرا في إلغاء هذا التحصين، لكن تعديل الدستور ليس من اختصاصه.
"هيكل" من الذين دفعوا السيسي لحسم أمره وإعلان ترشحه، على غير هوى دوائر الانقلاب إقليميا، وكانت السعودية أيضا ليست متحمسة لذلك، وقد سبق لها أن استدعت الفريق سامي عنان ليكون المرشح الرئاسي المختار، لكن السيسي ومن وقفوا خلفه من أمثال هيكل كان قرارهم وضع الجميع أمام الأمر الواقع!.
"هيكل" في معرض ابتزازه للإمارات، تطرق بدون مناسبة لقضية الجزر الإماراتية المحتلة من إيران، وهو لا يعدم المناسبة فعندما لا يجدها يختلقها!.
وقال إن الإمارات ليس لها حق في هذه الجزر، لأنه جرى التنازل عنها طواعية لصالح إيران، فهاجمه الإماراتيون ووصفوه بالخرف، ولم يهتموا بأن مثل هذا الاتهام يسيء إلى الخيار الذي دعموه في مصر، لأنه خيار هذا الخرف بالأساس!.
كانت الرسالة لا تخطئ العين دلالتها، وهي أن السيسي يستخدم سيفا بتارا، في المواجهة، وإن لم يستمروا في تأييدهم له، فسوف يطلق عليهم هيكل، الذي ارتضى لنفسه أن يقوم بدور "سمير رجب" مع حسني مبارك، و"ممتاز القط"، و"محمد علي إبراهيم" في المرحلة التالية.. مجرد أداة للردع، وربما تطوع هيكل للقيام بهذا الدور حماية لاختياره، والذي حقق له رغبته الملحة في وظيفة الكاهن لدى الفرعون، بعد مرحلة البحث والتنقيب!.
ومنذ أن جاء سلمان ملكا للسعودية، وهناك كلام كثير عن أن الرجل ليس كسابقه في الحماس لعبد الفتاح السيسي، وفي معاداة الربيع العربي ولو كان هذا العداء يضر بالأمن القومي السعودي. وقد تسبب الملك الراحل في إضعاف المحور السني بالعداء مع تركيا وفي النيل من مكانة مصر بالانقلاب العسكري. فبرزت إيران!.
كما أن هذا العداء للربيع العربي وما أفرزه من اختيار الشعوب لجماعة الإخوان المسلمين، كان دعما للنفوذ الإيراني في المنطقة، ما يهدد السعودية ذاتها التي وجدت نفسها في العهد الجديد وكأنها استدعت الخطر إلى حدودها!.
ولا يمكن مواجهة هذا الخطر إلا بهزيمة التمدد الإيراني في اليمن، وعن طريق الحزب الأقوى وهو حزب "الإصلاح" الذي يشكله الإخوان هناك.
والذي زاد وغطى هو التسريبات التي بدا فيها القوم في القاهرة، يتعاملون مع دول الخليج المالك لـ"الرز" على قاعدة: حسنة وأنا سيدك. فهي أنصاف دول، ينبغي تطبيق سياسة: "هات خد" معها. وقد تملكهم إحساس بالقوة، فهم وحدهم من يملكون جيشا وأسلحة، وهم من يحتكرون القوة لحماية أمن الخليج!.
رسائل كثيرة كانت تأتي لتؤكد أن الملك سلمان، ليس هو الملك عبد الله، لكن دائما تبدد تصريحات الجانبين دلالة هذه الرسائل عن عمق العلاقات بين القوم، وأن ما يثار من خلافات أو "عدم استلطاف" هو أماني أكثر منها واقعا!.
يبتز السيسي السعودية، باستقبال الحوثيين، وبالتقارب مع إيران من خلال أذرعه الإعلامية والسياسية والدينية، فتأتي التصريحات الرسمية لتؤكد متانة العلاقات، لكن هيكل لم ينتظر حتى يشفى تماما من وعكة ألمت به، فيستدعي "السفير" اللبنانية لتجري حوارا معه من على "كرسي المرض"، يظهر فيها لظروف مرضه بالقميص، وهو لا يظهر في مثل هذه المقابلات إلا بالبدلة والكرافت، ومنذ أن كان رئيسا لمؤسسة "الأهرام" وهو لا يقبل رؤية صحفي بها بدون "الكرافت" أو بالملابس الكاجول. وعندما تم فصله وكان مكتبه الخاص في نفس البناية التي يقيم فيها، فإنه لم يتخفف من الزي الرسمي فهو يرتدي البدلة وربطة العنق لينتقل من شقته إلى مكتبه!.
"حالة الكجولة"، حالت دون الظهور التلفزيوني، فوقع الاختيار على "السفير"، واضح لأن الأمر كان ملحا ولا ينتظر حتى يسترد "الأستاذ" عافيته. وقد هاجم السعودية، وتنبأ بسقوط النظام السعودي، الذي يعرف بلسان من يتحدث هيكل وهو الحذر عندما يكون الأمر متعلقا بأي نظام سياسي، فلا يقترب سوى من النظام الأردني لدواعي الحديث في التاريخ.
توقعات هيكل المستقبلية لا قيمة لها، يكفي أنه قال إن البيت الأبيض ليس مستعدا لاستقبال رئيس أسود، وكتبت أنا: بل مستعد، ولم يكن كلانا يستند لمعلومات وإنما ضرب هو الودع، فرددت عليه بقراءة الطالع، ولكي أثبت أنه يقول أي كلام، وبعد شهرين نجح أوباما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية!.
وفي سنة 2006، قرأ الطالع وقال بلسان الواثق المطلع على دقائق الأمور إن المسرح الآن يستعد لاستقبال جمال مبارك رئيسا، في سبتمبر المقبل (بعد أربعة شهور)، فقرأت أنا الفنجان وكتبت أن جمال مبارك لن يكون رئيسا!.
"هيكل" في توقعاته يكون وثيق الشبه بجحا الذي دخل مراهنا على قدرته في تعليم حمار العمدة اللغة الإنجليزية في ظرف عشر سنوات، فلما انزعج المقربون منه لقبوله هذه المغامرة مؤكدة الفشل، قال قولته الشهيرة بعد عشر سنوات، إما أن يكون العمدة مات، أو أن حماره مات، أو أن جحا نفسه هو من يكون قد مات!.
فصاحبنا يعتمد على "اللقطة" في توقعاته، وعلى الوهج اللحظي، وبعد ذلك لن يتذكر الناس توقعاته ومدى تحققها.
وفي الحالة السعودية، ما يشغله هو وقعها على النظام الذي يتوقع هيكل له السقوط، ليس لأن أولى الأمر هناك سيأخذون كلامه على محمل الجد، ولكن لأنهم يعلمون لحساب من يعمل، فينفرون للقاهرة خفافا وثقالا، بعد أن هددهم السيسي بمدفعيته الثقيلة!.
ولأن هناك من فهموا أن الرسالة ربما تكون بسبب انحيازات السيسي القديمة لإيران، فكانت الرسالة الأكثر بلاغة من "ذراع السيسي" أحمد موسى الذي حذر الملك سلمان من التدخل في شؤون مصر وقال: "مصر لا تقبل تدخلك"، لتصبح الأمور أكثر وضوحا، وبتهديد واضح بأن هجوم الأذرع الإعلامية المبتذل على الدوحة، يمكن أن ينال من قادة المملكة العربية السعودية، بقيادة المايسترو هيكل، وهو ليس مجرد ذراع.. إنه "ورك" كامل.
الرسالة وصلت.
[email protected]