من يتابع تسلسل الأحداث في سورية والعراق عبر الأعوام المنصرمة لا يجد صعوبة باكتشاف الترابط العضوي بين تنظيم الدولة، والميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً رغم اختلاف العقيدة الفكرية الدينية، وتصادمها بين الطرفين فكلاهما غدا شرياناً حيوياً يمد الآخر بأسباب الحياة والبقاء رغم الجهود الحثيثة لكل طرف بإفناء الآخر.
إنَّ تنظيم الدولة الذي عاش شريداً طريداً في صحراء الأنبار بعد أنّ لفظه الشارع السني بعود بقوة، ليحكم مساحة جغرافية شاسعة بأنظمته وقوانينه مستثمراً الظلم الذي تعرض له المكون السني في العراق وسورية، هذا الظلم الذي أدى لنشوب ثورة في البلدين ضد نظامين طائفيين فاسدين، وقد يرع التنظيم في ركوب الثورتين والعزف على وتر الصراعات والخلافات سواء على مستوى الدول أو على مستوى الفصائل والمجموعات، وحصل ذلك منذ نشاط التنظيم في العراق، وتقاربه مع النظام السوري أثناء فترة الاحتلال الأمريكي للعراق.
أما الاستغلال الأكبر للأحداث فتمثل بحاجة النظامين العراقي والسوري للتنظيم كطوق نجاة أخير للتخلص من المطالب الشعبية، وإثبات صفة التطرف للثورتين، فصعد نجم التنظيم في سورية سريعا في ظل توفير النظام السوري الأسباب الموضوعية لتمدده، وفي غفلة من الزمن تفاجأ الجميع بسيطرة بضع مئات من مقاتلي التنظيم على مدينة الموصل التي يزيد عدد سكانها عن مليوني نسمة، رغم وجود ثلاثة فرق عسكرية مجهزة بأحدث الأسلحة، ودون أي قتال مما ترك أكثر من إشارة استفهام حول حقيقة السيطرة.
وتبع ذلك حادثة قاعدة سبايكر التي لم يجزم أحد حتى الآن بحيثياتها، وترك السؤال دون إجابة، فكيف يتمكن تنظيم الدولة من قتل ألف وسبعمئة مقاتل متحصنين في قاعدة عسكرية دون أيَّ مقاومة؟!
إنَّ هذا يرجح أنَّ الأوامر أعطيت للفرق العسكرية بالانسحاب من الموصل للتغطية على الثورة العراقية الشعبية، وبدأ أنَّ الأمور سارت في الطريق المرسوم لها فبدلاً من محاسبة المسؤولين عن تسليم الموصل، وإعادة بناء الجيش العراقي على أسس مهنية بحيث يكون جيشاً لكل العراقيين أصدر المالكي أمرا بتشكيل ميليشيا الحشد الشعبي التي أخذت طابعاً طائفياً ولا سيما بعد فتوى السيستاني، بالوقت الذي رفضت فيه الحكومة العراقية تسليح العشائر السنية للوقوف في وجه تنظيم الدولة.
كان الغطاء السياسي والقانوني الممنوح للميليشيات الطائفية العراقية غطاء لشرعنة وجود تنظيم الدولة الذي ادّعى دفاعه عن المكون السني، وتعزز موقف تنظيم الدولة عقب الممارسات الطائفية للميليشيات الشيعية المتمثلة بحرق مساجد أهل السنة، وتدمير وحرق المدن والبلدات التي يُدحر منها التنظيم، فضلاً عن عمليات القتل والاعتقال والاغتصاب التي طالت المكون السني.
وخبا وهج الثورة العراقية أمام مطرقة الميليشيات وسندان تنظيم الدولة، فقدم التنظيم للحكومية العراقية مبررات قمع الثورة الشعبية العراقية عبر قمعه للحراك الشعبي السني، فقدَّمَ للميليشيات الطائفية مبرر وجودها، وما يزال الطرفان يقدمان المبررات للشرعية للآخر، ويطحنان الشعب العراقي.
أما في سورية فقد قدَّمَ النظامُ السوريُّ الأرضيةَ الخصبة لتمدد التنظيم عبر الاستعانة بشكل لافت بالميليشيات الطائفية ليحول الصراع في سورية من ثورة شعب ضد نظام مستبد إلى صراع طائفي بين مكونات أبناء البلد، ليمنح النظام نفسه شرعية القمع الدموي للشعب السوري بدعوى أنه يقاتل تنظيماً متطرفاً.
واستثمر تنظيم الدولة تسليم النظام البلاد من أجل ترويج مشروعه الإقصائي، فعدّ التنظيم كل الفصائل الثورية مرتدة لأنها لا تقبل بنهجه المتطرف، فشكل خنجراً للثورة السورية عبر تصويرها ثورة مكون سني، بينما هي في الحقيقة ثورة شعب.
إنَّ الواقع في سورية والعراق يشهد أنَّ الميليشيات الطائفية التي تمثل النظامين السوري والعراقي، وتنظيم الدولة لا يعيشان إلا ضمن فضاءات الصراعات والخلافات المذهبية والعرقية، وبالتالي فإنَّ كل فريق يعيش ويقتات على جرائم الفريق الآخر رغم الفوارق الشاسعة بين جرائم الطرفين.
إنَّ الفعل يستوجب ردة فعل تتناسب معه طرداً ولا يمكن القضاء على تنظيم الدولة إلا بالقضاء على الميليشيات الطائفية بالوقت ذاته، فكل فريق يمثل شريان الحياة للفريق الآخر، وكل خطوة لا تسير في الطريق الصحيح بمنح جميع المكونات فضاءات من الحرية تعني الرجوع للوراء، واستمرار كرة لهيب التطرف بحرق الجميع.