كتب باسكال بونيفاس: هل نشهد الآن إعياءً من التدخل العسكري لدى الغرب، أم عودة لانفتاح شهية هذا التدخل؟ أعتقد أن هنالك ثلاثة عوامل ستتحكم في مستقبل التدخلات العسكرية الخارجية، بشكل عام:
- الأول، هو الرؤية المختلفة لمفهوم التدخل بين دول الشمال التي ظلت تنظر إليه على نطاق واسع باعتباره مؤشر أريحية واهتمام تجاه دول الجنوب، في حين تراه هذه الأخيرة، بما في ذلك في الديمقراطيات البازغة، على أنه تعبير عن رغبة استقواء ومظهر من مظاهر الاستعمار الجديد.
- والعامل الثاني، هو نهاية الاحتكار الغربي للقوة على المسرح الدولي.
- أما الثالث، فهو تنامي قوة تأثير الرأي العام في تحديد توجهات السياسة الخارجية.
ولاشك أن التدخلات العسكرية الغربية في الخارج لم يعد ممكناً بعد الآن اعتبارها نزهة رشيقة، مثلما كان عليه الحال حتى نهاية القرن العشرين تقريباً. ووفق هذا المنطق، لم تعد هنالك علاقات موازين قوى مختلة، وغير متناسبة، بما يجعل الغربيين في مأمن من جميع المخاطر. وهذه التدخلات صار لزاماً، بطبيعة الحال، أن تلقى الدعم في الداخل، وألا تكون مرفوضة على الصعيد الدولي، فقد باتت الشرعية السياسية لأي تدخل أهم من القدرة العسكرية على تنفيذه.
ويمكن القول إن أغلبية عمليات التدخل خلال السنوات والعقود الأخيرة قد تكللت بالفشل. ففي أفغانستان، رغم الأسس الشرعية التي بني عليها التدخل، فإن ثمة انطباعاً قوياً بتكشُّفه مع مرور الوقت عن إخفاق قابل للمقارنة مع ما جرى في العراق الذي تم غزوه هو أيضاً، لكن بطريقة غير شرعية. فقد انعكس الطعن والتشكيك في دواعي حرب العراق على حرب أفغانستان، رغم اختلاف المنطلقين. كما أدى تطاول زمن الصراع في بلاد الأفغان إلى تآكل شرعيته، ومن ثم إلى جنوحه نحو الفشل. وبسرعة تحولت القوات المحررة إلى قوات احتلال، وقوبلت بالرفض.
وفي ليبيا، سرعان ما تكشّف النجاح المبدئي عن حالة من الفوضى العارمة. وزيادة على ما ترتب عن التدخل من تداعيات خارج الحالة الليبية نفسها، كتوابعها في مالي، فقد تمثل الضرر الأكبر جراء هذه العملية في إعطاء معنى سيء لمفهوم مسؤولية الحماية الإنسانية. فتحوير المهمة في نصف الطريق، وتغيير الهدف إلى إسقاط النظام، شكّل ضربة في مقتل لهذا المفهوم المبتكر والحامل للأمل لضمان الأمن الإنساني الجماعي. وما نراه اليوم من عجز وشلل دولي حيال سوريا هو تحديداً ثمرة لإخفاق الحرب في العراق، وكذلك في ليبيا.
ومع هذا كانت هنالك تدخلات دولية ناجحة، تستحق أن نتحول لسرد بعضها. ويمكننا هنا ذكر التدخل المحدود، في عام 1999، في تيمور الشرقية. والتدخل الفرنسي الناجح في جمهورية مالي، الذي استغرق زمناً قصيراً في مواجهة خصوم ضعفاء، وتمت الاستجابة لطلب من الجماهير المالية، وحظي بدعم إقليمي وعالمي، فضلا عن حصوله على ضوء أخضر من الأمم المتحدة.
أما العملية العسكرية في كوسوفو، عام 1999، فكانت إلى حد ما نصف ناجحة، حيث لم يكن هنالك تفويض صريح، ولم تستغرق الحرب سوى وقت قصير، لكن ها هي كوسوفو اليوم مستقلة بينما كان «الناتو» قد أكد أن تدخله ينبغي ألا يقود إلى ذلك. وزيادة على إثارة هذا التدخل للامتعاض الروسي، فما زالت موسكو تعيد التذكير بتلك السابقة دون انقطاع لتبرير سلوكها اليوم في شبه جزيرة القرم، وقبل ذلك في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
وأخيراً يمكن ذكر حرب الخليج في عام 1991 كقصة تدخل ناجحة أخرى، حيث لقيت تأييداً شاملاً مع تفويض قانوني دولي صريح، وجرت بمشاركة تحالف عالمي تقريباً. ولم تستغرق المعارك سوى وقت قصير، وانسحبت الوحدات مباشرة بعد تحقيق النصر.
وهكذا، يكون السؤال المطروح الآن: ما هي شروط نجاح أية عملية عسكرية في الخارج، على ضوء تعقيدات وتحديات الواقع الدولي اليوم؟
أولاً وقبل كل شيء، ينبغي عدم الخلط بين العالم الغربي والمجتمع الدولي، لأن الغرب جزء من العالم وليس هو كل العالم. ولذا فإن نيل تفويض من مجلس الأمن الدولي يبقى هو أفضل ضمان لشرعية أي تدخل. وهذا يعني بالتبعية العمل، على المدى الطويل، مع روسيا والصين. وبناء شراكة أمر واقع كهذه ليس أمراً مستحيلا كما رأينا في حالات سابقة. ومن الحتمي أيضاً التفكير عند التخطيط لأي تدخل فيما سيقع في اليوم التالي، والوقوف على شرفة المستقبل، والاستعداد لذلك. وقد أثبت النموذج الليبي ما في إغفال تلك النظرة الاستشرافية من مخاطر.
وكذلك، لا يثير عادة أي تدخل يجري تحت غطاء من منظمة إقليمية دولية حساسيات واتهامات للغرب بالانخراط في ممارسات الاستعمار الجديد. وهنا يلزم العمل بكل الطرق الممكنة لتجنيب التدخل أن يوصف أو يصنف في خانة الحروب الإمبريالية، لأن من شأن ذلك أن يقوي ما سيلقاه من مقاومة، وبالتالي يحوله إلى وصفة للفشل. وكذلك فإن أي تدخل غربي دون وجود حلفاء محليين أو إقليميين محكوم عليه سلفاً بالفشل الذريع. ولا أمل أيضاً في كسب الحروب ضد جماعات التمرد إلا بشرط وجود حليف وطني قوي يمكننا الاستناد والاعتماد عليه، على أن يكون مؤثراً وقادراً على إيجاد حل سياسي سريع.
لقد فقد الغرب القدرة على احتكار وفهم سرديات الحروب. ومفهوم أن الاستخدام غير المحدود للقوة والعنف، لا يترتب عليه سوى تفشي الصور السلبية وانهيار الشعبية بالنسبة للطرف المتدخل. وقد رأينا هذا من واقع تجارب التدخل العسكري الإسرائيلي في غزة، وكذلك التدخل الأميركي في العراق عام 2003.
لقد فشلنا في بناء نظام عالمي جديد منذ انتهاء الحرب الباردة. ولم تعد الأحادية خياراً ممكناً اليوم في عالم يتجه نحو عودة التعددية القطبية مجدداً. ومن هنا يمكن أن يصبح عنوان المرحلة المقبلة هو: «لا نزعة سلمية (فقد يكون اللجوء إلى القوة أحياناً خياراً ضرورياً، وقانونياً وشرعياً) ولا نزعة عسكرتارية (لأننا لا نستطيع حل المشكلات السياسية بالوسائل العسكرية): وبذلك يتحقق الأمن الجماعي».
وفي المجمل إن كان للتدخل العسكري الخارجي أن يقع في نهاية المطاف، فينبغي اعتباره آخر الخيارات، وبناؤه على أساس قاعدة إجماع قانوني شرعي، وضمان استقطاب أكبر تأييد دولي له. وأما ما سوى ذلك، فليس سوى ضرب من العبث.