سياسة عربية

انتصر الدستور بتونس والانتخابات أم المعارك القادمة

خلال الاحتفال باعلان الدستور - (أرشيفية) أ ف ب
خلال الاحتفال باعلان الدستور - (أرشيفية) أ ف ب
اعتبر المتابعون للشأن التونسي أن المصادقة على الدستور كان علامة نجاح الثورة التونسية في ظل انتكاسة مسار ثورات الربيع العربي في عدة بلدان عربية.

ومع تشكيل حكومة مهدي جمعة تبدو الانتخابات القادمة بمثابة أم المعارك السياسية التي تنتظر تونس وتستعد لها كل الأحزاب.

فقد كانت الأزمة السياسية في تونس خلال الصيف الماضي تنذر بكل الاحتمالات السيئة على المسار الثوري في تونسي وحاولت المعارضة اليسارية وتلك المرتبطة بفلول النظام السابق تنفيذ أجندة شبيهة بالمسار المصري إلا أن الترويكا الحاكمة في تونس تمكنت من تجاوز العاصفة وكان التصويت على الدستور بمثابة الهدية التي تجعل الخروج من الحكم "انتصارا" لتواصل المسار الثوري وانتكاسة للقوى الداعمة لانقلاب على مسار انتخابات "23 تشرين الأول/ أكتوبر" 2011  كما أعلن ذلك رئيس الرئيس محمد منصف المرزوقي في تصريحات إعلامية سابقة.

وفي الوقت الذي أصرّت فيه المعارضة التونسية على إخراج النهضة من الحكم يبدو أن هذه الأخيرة قد وجدت الفرصة مناسبة في مغادرة السلطة بحسب ما ذهب إلى ذلك بعض معارضيها  لمزيد الاستعداد للانتخابات القادمة دون ضغط هموم التسيير اليومي لشؤون التونسيين التي أصبحت صعبة التناول على أي حكومة مهما كانت كفاءتها.

إلا أن الأحزاب التي كانت تعارض النهضة وهي في الحكم ستفقد إحدى أهم آليات إثبات وجودها الذي تحدد طيلة سنتين من حكم النهضة بمعارضة هذه الأخيرة.

المسار الطويل لإنقاذ الثورة التونسية

عشية اغتيال القيادي القومي الحاج محمد البراهمي يوم 25 تموز/ يوليو 2013 لم يكن أحد في تونس يتوقع أن تتمكن البلاد من صياغة دستورها الذي طالبت به اعتصامات القصبة 2  آذار/ مارس 2011 حيث احتشد مئات الآلاف في ساحة الحكومة بالقصبة مطالبين بمجلس تأسيسي يلغي دستور نظام حكم بورقيبة وبن علي ويكتب نصا جديدا يكون دستور الثورة التونسية.  وطالبت أغلب الأحزاب المعارضة مساء اغتيال البراهمي بحلّ المجلس التأسيسي، صاحب مهمة كتابة الدستور وتشكيل حكومة إنقاذ وطني على النمط المصري.

وربما بعد التأكد من عدم قدرة حادثة اغتيال البراهمي على إسقاط منظومة انتخابات "23 أكتوبر"، تم ارتكاب اغتيال فظيع في أحراش الشعانبي وهي أعلى قمة جبلية في تونس على تخوم مدينة القصرين غرب البلاد على الحدود مع الجزائر حيث تمت تصفية ثمانية من نخبة الجيش التونسي والتنكيل بجثثهم الأمر الذي استغلته حسب عديد المتابعين أحزاب المعارضة لتسيير تظاهرات ضد الحكومة وتم حرق عديد المقرات لحزب النهضة، إلا أن تلك التظاهرات التي نظمتها جبهة  الإنقاذ التي شكلها حزب نداء تونس والجبهة الشعبية اليسارية فجر 26 تموز/ يوليو الماضي وإعلان اعتصام الرحيل وانسحاب نواب المعارضة من المجلس التأسيسي التونسي لإنهاء عمل كل مؤسسات الدولة التي تسيرها الترويكا الحاكمة لم تؤدي إلى انهيار السلطة القائمة.

وتشبث رئيس الحكومة آنذاك علي العريض بما سماه "تلازم المسارات وقال "نغادر الحكومة لكن بضمانات لإنهاء المسار الانتقالي وخاصة المصادقة على الدستور".

ولم تتمكن حركة تمرّد التونسية، التي كونها منتسبون للجبهة الشعبية وحركة نداء تونس يوم 3 تموز/ يوليو الماضي تيمنا بتمرد المصرية، في أول وآخر تحرك لها في ساحة القصبة من حشد أكثر من 200 متظاهر بعدما تحدثت عن مئات الآلاف من الإمضاءات التي جمعتها لإنهاء حكم الترويكا.

وأطلقت أربع منظمات كبرى الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين وهي منظمات يسيطر على قيادتها اليسار والمنظومة القديمة خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر مبادرة لتجاوز الأزمة السياسية وانتظم حوار وطني أفضى في النهاية إلى اختيار مهدي جمعة وزير الصناعة في حكومة علي العريض رئيسا لحكومة التكنوقراط المستقلة ولكم تتمكن الجبهة الشعبية ولا نداء تونس من تمرير مرشحيها.

الحكومة الجديدة لا تُغضِب النهضة ولا تُفرِح المعارضة

سجل جميع المعارضين في تصريحات إعلامية لحركة النهضة قدرة هذه الحركة وخاصة رئيسها راشد الغنوشي على المناورة وتفادي الضربات القاتلة ففي الوقت الذي كانت فيه المعارضة اليسارية وتلك المحسوبة على المنظومة القديمة تسعى لتمرير مرشحها للوصول إلى قصر الحكومة بالقصبة لتنفيذ ما يعتبره أنصار حركة النهضة سياسة استئصالية جديدة  ضد التيار الذي تمثله النهضة.

وأنهك وفد حركة النهضة المشارك في الحوار الوطني وفود المعارضة بماراثون مفاوضات جعل هذه الأخيرة تستسلم للاختيار مهدي جمعة رئيسا للحكومة، وهو اختيار قد لا تكون النهضة وراءه ولكن المعارضة من خلال رموزها أو بعض الصحف القريبة منها بدت متوجسة من مهدي جمعة بدءً من إطلاق إشاعة انتمائه لمنظمة الإتحاد العام التونسي للطلبة المحسوبة على الإسلاميين إلى اعتباره قد نشأ في مدرسة المهندسين بتونس "معقل الإسلاميين بالثمانينات من القرن الماضي".

المصادقة على الدستور أو استمرار المسار الثوري وانتكاسة الثورة المضادة

وبعد أن فشلت المعارضة في إسقاط حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة بضغط الشارع على الطريقة المصرية إذ تمكنت النهضة من حشد متظاهرين في ساحة القصبة في شهر رمضان الماضي فاقوا بكثير عدد متظاهري اعتصام الرحيل في ساحة باردو، ومع بقاء مؤسستي الجيش والأمن على الحياد وبعد التوافق على تعيين حكومة مهدي جمعة، وربح الترويكا الحاكمة معركة "طول النفس" بإسقاط كل مرشحي المعارضة واختيار رئيس الحكومة من صف حكومة الترويكا كان التصويت على الدستور بأغلبية 200 صوت من مجموع 217 نائب في المجلس التأسيسي بمثابة الانتصار للقوى المتمسكة بالمسار الثوري وزاد يقين التونسيين بأن المثال المصري ليس نسخة صالحة للتطبيق في تونس.

وكان حضور وفود عالية المستوى في الحفل الذي نظمته رئاسة الجمهورية يوم 7 شباط/ فبراير الجاري  في رحاب المجلس التأسيسي بمثابة الشهادة العالمية على نجاح التجربة التونسية.

 وبعد تسليم الشأن اليومي لحكومة تكنوقراط تتجه الأحزاب التونسية إلى أم المعارك القادمة التي ستتشكل إثرها حكومة دائمة وهي معركة الانتخابات

المشهد السياسي في أفق الانتخابات القادمة

ورغم ما يظهر من أن حزب حركة نداء تونس فإن الحقيقة تبرز أن لا تنظيم سياسي في الساحة التونسية يمكن أن يحدث التوازن مع حركة النهضة، فهذا الحزب الذي تشكل من ائتلاف يساريين ونقابيين وتجمعيين (الحزب الحاكم السابق / التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل) ورجال أعمال كانوا على علاقة بالنظام السابق تتهدده مخاطر الانقسام ويعتبر بعض المتابعين أنه سينكفئ على نواة صلبة تجمعية بدأت تظهر من خلال تعيين وزير بورقيبة السابق للشؤون الاجتماعية محمد الناصر نائب لرئيس الحزب الباجي قايد السبسي بعد أن كان النقابي اليساري الطيب البكوش يلي السبسي في السلم التنظيمي للحزب بشغل منصب الأمين العام وحتى المجموعة التي كانت تنتمي لحركة التجديد لن تتمكن من مواجهة مد التجمعيين في الحزب لاسيما أن الباجي قايد السبسي قد عيّن منذ أسابيع آخر أمين عام لحزب بن علي التجمع الدستوري الديمقراطي محمد الغرياني مستشارا سياسيا خاصا له أياما قليلة بعد خروجه من السجن.

أما الجبهة الشعبية التي جمّعت أغلب فصائل المعارضة اليسارية والقومية الراديكالية السابقة فيبدو أن التقاءها مع حزب نداء تونس لن يتحول إلى جبهة انتخابية بعد أن أعلن هذا الأخير أن جبهته الانتخابية هي الاتحاد من أجل تونس الذي يتكون من حزب النداء وثلاثة أحزاب يسارية صغيرة، المسار الديمقراطي الاجتماعي والحزب الاشتراكي وحزب العمل الوطني الديمقراطي.

فيما يبحث التكتل الديمقراطي بقيادة رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر على التقارب مع أحزاب اجتماعية ديمقراطية لتشكيل جبهة انتخابية حيث تقوم محادثات ولقاءات من أجل ذلك مع حزب العمل الذي يقوده النقابي السابق علي بن رمضان والتحالف الديمقراطي بقيادة محمد الحامدي والحزب الجمهوري بقيادة مية الجريبي.

ورغم صعوبة تجميع المعارضة السابقة لحكم الترويكا في تكتل انتخابي سياسي موحد لمواجهة حركة النهضة أو أي ائتلاف انتخابي قد تشكله هذه الأخيرة فإن احتمالات نزولها في قائمة موحدة تبقى قائمة من الناحية النظرية فرهان الفوز في الانتخابات القادمة بالنسبة لأغب الأحزاب التونسية هو رهان حياة أو موت.
0
التعليقات (0)