مدونات

جماعة غولن والطيب أوردغان..

صهيب عبد الرحمن
صهيب عبد الرحمن
أجرى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان تعديلًا وزاريًّا طال نصف عدد وزراء حكومته، بعد أن وردت أسماء أربعة منهم في التحقيقات في قضايا فساد. ويعتقد أن رجلَ الدين فتح الله غولن - الذي يعيش في منفى بالولايات المتحدة والمعروف بعلاقاته المتشعبة هناك، رئيس حركة "خدمة" التي بقدر عدد أتباعها مئات الآلف بينهم مسؤولون كبار في الشرطة والقضاء،- بتدبير هذه "المؤامرة" لإسقاط حكومة العدالة والتنمية، بالتنسيق مع قوى أجنبية غير راضية عن السياسات الخارجية التركية من مختلف القضايا الإقليمية والدولية وعلى رأسها "الولايات المتحدة والسعودية" وإن لم يسمها حتى الآن.

وكانت جماعة غولن تُعَدُّ حليفًا وثيقًا لحكومة حزب العدالة والتنمية بعقد من الزمن، وكانت قد صوَّتت لها في جميع الانتخابات التي جرت منذ عام 2002. وبالمقابل فتحت الحكومة للجماعة آفاق العمل والنشاط في جميع قطاعات الدولة، بما فيها وزارات التربية والتعليم، والداخلية ومديريات الأمن والاستخبارات، ووزاراتي الخارجية والعدل. كما ذهب أردوغان إلى حدّ الترويج للجماعة في الخارج، عندما توسّط بينها وبين مختلف الزعماء والرؤساء للحصول على أراضٍ في بلدانهم تقيم الجماعة عليها مدرسةً، أو رخصٍ تقيم بموجبها مشروعًا..

وقد ساعد النجاح الداخلي والخارجي الذي حقَّقته حكومة أوردغان بين عامي 2002 و2010 في استمرار هذا التحالف. بيد أنّ التحديات التي بدأت تواجهها تركيا، سواء على صعيد علاقاتها الخارجية نتيجة التحولات الكبيرة التي حصلت في محيطها الإقليمي ودفعتها إلى الاصطدام مع بعض دول الجوار الفاعلة، أو على صعيد مشاكلها الداخلية المرتبطة ببعض القضايا مثل المسألة الكردية، جعلت حركة فتح الله غولن تختلف مع الحكومة وتعمل على إحراجها عبْر رميها بتُهم الفساد المالي.

فما الذي أدَّى إلى تحوّل الجماعة ضدّ الحكومة وأدخل تركيا في واحدة من أخطر أزماتها السياسية منذ الانقلاب الذي أطاح حكومة نجم الدين أربكان عام 1997؟ وكيف ستؤثر هذه المواجهة في المشهد السياسي التركي مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المقرَّر في 30 آذار / مارس المقبل، وخصوصًا أنّ جماعة غولن تملك وسائلَ إعلام نافذةً ولديها أتباع ومؤيّدون في أوساط الأعمال والوظائف العامَّة.

في عام 1999، حين غادر غولن إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، نشر التلفزيون التركي مقطع فيديو يظهر فيه غولن مخاطبا أنصاره: “يجب أن تتحركوا في شرايين النظام دون أن يلحظكم أحد…يجب أن تبقوا حتى اللحظة التي تكونوا قد سيطرتم فيها على الدولة.”لكن غولن قال إنه تم التلاعب بالمقطع المصور وبرأته محكمة من قضية ذات صلة.

بدأت الخلافات الحقيقية بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية نتيجة اختلافات في تحديد المصالح الخارجية التركية وقراءتها أساسًا. فمنذ حادثة سفينة "مافي مرمرة"، في أيار / مايو 2010، بدأ فتح الله غولن يوجِّه انتقادًا لاذعًا إلى الحكومة التركية، مدَّعيًا أنها سمحت للسفينة بالإبحار من دون أخْذ إذنٍ من الحكومة الإسرائيلية. وفي مفارقة أثارت استغراب الكثيرين، حمَّل غولن رئيسَ الحكومة أردوغان مسؤولية الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية الذي أدَّى إلى مقتل تسعة أتراك. وقد مثَّلت هذه التصريحات حينئذٍ صدمةً داخل تركيا وخارجها. ولم يكن الخلاف المتعلق بقضية سفينة مرمرة، التي لم تبادر حكومة أردوغان أصلا الى إرسالها إلا مؤشِّرًا على رفْض غولن سياسات أردوغان المنحازة إلى العرب في نقدها للسياسة الإسرائيلية؛ إذ يمثّل غولن في هذا الموضوع تحديدًا وجهة نظر مختلفة كليًّا، فهو لا يُبدي حرصًا شديدًا على بناء علاقات ممتازة بالولايات المتحدة فحسب، بل إنه حريص على ذلك مع إسرائيل أيضًا. وهكذا ظهر غولن معارضًا لسياسات حزب العدالة والتنمية في الخارج، قبل أن يظهر معارضًا لها في الداخل.

لقد ظهر الخلاف المتعلِّق بقضايا داخلية بين غولن وأردوغان، أوَّل ما ظهر، عندما أسّست حكومة العدالة والتنمية المحاكم الخاصة للنظر في قضيَّة الأرغينيكون، وهي قضية اتهمت فيها الحكومة عشرات الضباط من المؤسّسة العسكرية بالتدبير لانقلاب عليها عام 2007. لكنّ أمد المحاكمات طال من دون حسمٍ، كما أخذت الاتهامات تمسُّ قياداتٍ عسكريةً عملت حتى وقت قريب بجانب أردوغان الذي جعل يُبدي استياءً واضحًا من بُطْء سير المحاكمات، ومن اقترابها من قيادات عسكرية تعدُّ قريبة إليه؛ ما أشعر أردوغان بأنّ جهازي الشرطة والقضاء اللذين أمسيا في قبضة جماعة غولن باتا يشكِّلان تحديًا كبيرًا له.

أمّا الخلاف الداخلي الثاني فقد ظهر عندما جرى الكشف عن تسجيلات صوتية لمفاوضات سرِّية في أوسلو مع حزب العمال الكردستاني، تحت إشراف رئيس جهاز الاستخبارات، في إطار مسعى الحكومة لحلّ القضية الكردية. غير أنّ جماعة غولن التي لها امتداد ونفوذ في المناطق الكردية كان لها رأي في الحلّ يختلف في التفاصيل مع رأي أردوغان؛ ما جعل المدّعي العامّ "صدر الدين صاريقايا"، المحسوب على جماعة غولن يقوم في فبراير / شباط 2012 باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات "هاكان فيدان" للمساءلة القانونية، إذ وجه إليه تهمًا بالتفاوض مع أعداء الوطن وتجاوز صلاحياته، فترتَّب على ذلك تدخُّل من رئيس الوزراء أردوغان الذي عدَّ المسألة خارجةً عن نطاق الخلاف السياسي إلى الاستهداف الشخصي له، عبْر استدعاء صديقه فيدان للتحقيق.

وقد ذهبت الشكوك إلى أنّ جماعة غولن هي التي قامت بتسريب التسجيلات الصوتية لرئيس جهاز الاستخبارات في أوسلو. وأشارت بعض الصحف إلى أنّ عناصر من جماعة غولن في جهاز الشرطة هي التي كانت وراء التقاعس الأمني الذي أدَّى إلى تفجيرات الريحانية في شهر أيار / مايو 2013؛ ما أوقع الحكومة في حرجٍ كبير.

وبلغ الخلاف بين الحكومة والجماعة أوجَه عندما أيَّد غولن - ضمنيًّا - الاحتجاجات التي جرت في ساحة تقسيم، في حزيران / يونيو 2013، على خلفية قضية حديقة غازي. وقامت، من جهة، وسائل إعلام تابعة للجماعة بتوجيه انتقاد حادٍّ لأردوغان، ولطريقة تعامل حكومته مع الأحداث. وتولَّت، من جهة أخرى، صحيفة تودايز زمان الناطقة بالإنكليزية مهمّة "تشويه" صورة حزب العدالة والتنمية على المستوى الدولي.

 أمّا القضية التي فجَّرت الخلاف على نحوٍ علني ومفتوح، فكانت قيام عناصر في الشرطة تدين بالولاء لغولن بحملة اعتقالات طالت أبناء وزراء في حكومة أردوغان بتُهم فسادٍ - من دون عِلم السلطات العليا - بمن فيهم وزير الداخلية؛ وذلك بهدف إحراج الحكومة عبْر رميها بتُهم الفساد المالي والأخلاقي، قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات البلدية؛ ما اضطر رئيس الحكومة أردوغان إلى أن يطلب من ثلاثة وزراء - وهم وزراء الداخلية والاقتصاد والبيئة - تقديم استقالاتهم، بعد سجن أبنائهم على ذمة قضايا فساد، حتى يتسنَّى للقضاء التركي التحقيق في التُّهم من دون التأثر بمناصب آبائهم، أو مكانتهم السياسية في الحكومة.

وفي مقابل كلّ خطوة عدائية كانت تقوم بها جماعة غولن، كانت الحكومة ترُدُّ بإجراء عقابي، فتمَّ إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي كانت جماعة غولن تملك 25% منها في البلاد، ردًّا على موقف الجماعة من أحداث ساحة تقسيم. وتذهب بعض القراءات إلى أنّ الحملة الأخيرة من الشرطة ضدّ الفساد لم تكن إلا ردًّا من حركة غولن على قيام الحكومة بإغلاق مدارسها. لكنّ الحكومة قامت بالردّ على الردّ عبْر طرْد العشرات من ضباط الشرطة والموظفين العموميين المحسوبين على الجماعة، من بينهم رئيس شرطة إسطنبول.

هذا التحول الكبير في موقف فتح الله غولن يثير تساؤلاتٍ عديدةً متعلقةً بالأسباب التي دعت إليه، فهل يشير ذلك بأنّ الجماعة أصبحت من القوة والتأثير والنفوذ ما يجعلها في غنًى عن الاستمرار في التحالف مع حكومة العدالة والتنمية التي فتحت لها كلّ الأبواب؟ أم أنّ غولن يشعر بأنّ نجم أردوغان بدأ بالأفول وأنّ حظوظه في الاستمرار في الحكم بدأت تقلُّ نتيجة الصعوبات التي أخذ يواجهها في السنتين الأخيرتين سواء داخليًّا أو خارجيًّا؟ أم أنه يريد أن يكرر تجربته مع حزب العدالة والتنمية مع أحزاب أخرى؟ وخاصة أن هناك توقعات بتحالف بين جماعة غولن وحزب الشعب الجمهوري المعارض بزعامة كليجدار أوغلو،

لا شكَّ في أنّ الانتخابات البلدية القادمة سوف تكون الامتحان الأبرز لحزب العدالة والتنمية، كما أنها ستعطي مؤشراتٍ متعلقةً بهذه الأزمة إن كانت أثَّرت فعلًا في شعبيته بين الناخبين الأتراك. ويبدو حتى الآن أنّ الحزب مطمئن إلى غياب معارضة سياسية حزبية قوية له، فجميع الأحزاب العلمانية ثبت فشلها، وعدم قدرتها حتى على استثمار متاعبه كما حصل في أحداث تقسيم وغيرها.

إضافةً إلى ذلك يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية مطمئن إلى أنّ الأتراك، خلال الانتخابات البلدية المقبلة، لن يصوِّتوا لأجندة سياسية، بل لمصلحة أجندة خدمية. وفي هذا المجال يدرك الحزب الحاكم أنّ الآخرين غير قادرين على منافسته؛ فمنذ وصوله إلى السلطة عام 2002 لم يستطع حزب سياسي تركي منافسة العدالة والتنمية في المحليات، ولا حتى في الانتخابات البرلمانية. وعلى الرّغم من ذلك فإنّ حركةً اجتماعيةً وجمعيةَ خدمةٍ خيرية ذات علاقات متشعبة بما فيها الولايات المتحدة، مثل جماعة غولن، قد تُلحق بالحزب الحاكم ضررًا أكبر ممّا تستطيع أن تلحقه به  أحزاب المعارضة العلمانية مجتمعةً. فهذه المعارضة لن تستطيع أبدًا أن تُقدِّم نفسها بديلًا من حزب العدالة والتنمية الذي خاض الانتخابات بكلّ أنواعها، والذي يعرف كيف يديرها ببرنامج له وزنه في الشارع التركي.
0
التعليقات (0)