قضايا وآراء

أفكار حول "المجتمع المدني" في "الديمقراطية القاعدية" بتونس

عادل بن عبد الله
"تمثّلوا إجراءات الرئيس باعتبارها خطوة ضرورية لتخليصهم من خصمهم الأيديولوجي بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية"- جيتي
"تمثّلوا إجراءات الرئيس باعتبارها خطوة ضرورية لتخليصهم من خصمهم الأيديولوجي بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية"- جيتي
منذ أن اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيد إجراءاته "الاستثنائية" بطريقة تحول حالة الاستثناء المؤقتة إلى حالة انتقالية تؤسس لـ"جمهورية جديدة"، كان واضحا أن تونس تتجه نحو إعادة هندسة جذرية للشأن العام. وهي إعادة هندسة لن تنحصر في المستوى السياسي بل ستعم سائر الحقول الأخرى، سواء مخرجات ما سماه أنصار "تصحيح المسار" بـ"العشرية السوداء" -أي عشرية الانتقال الديمقراطي- مثل المؤسسات الدستورية، أو ما ارتبط بالديمقراطية الليبرالية/التمثيلية منذ تأسيس الدولة-الأمة، مثل "المجتمع المدني" والمنظمات المهنية كاتحاد الشغل واتحاد الفلاحين وغيرهما. بصرف النظر عن الخلافات الكبيرة في توصيفه من الناحيتين الدستورية والسياسية، وبصرف النظر كذلك عن علاقته بالدولة العميقة وبمحور الثورات المضادة، جاء "تصحيح المسار" ليطرح نفسه "تأسيسا ثوريا جديدا" يشتغل بمنطق البديل للأجسام الوسيطة كلها لا بمنطق الشريك لبعضها، بما في ذلك تلك الأجسام التي مهدت له وساندته بدرجات متفاوتة، ومنها أغلب مكوّنات المجتمع المدني.

رغم حرص النظام في الفترة الأولى التي أعقبت "الإجراءات" المتخذة يوم 25 تموز/ يوليو 2021 على عدم التصعيد تجاه مكوّنات المجتمع المدني وعلى حصر الخصومة في حركة النهضة وحلفائها، كان واضحا أن الفلسفة السياسية لـ"تصحيح المسار" -وهي فلسفة غير مخفية وعبّر عنها الرئيس قيس سعيد خلال حملته الانتخابية سنة 2019- تستبعد منطق الشراكة مع كل مكونات "منظومة الخطرين الداهم والجاثم"، بمن فيهم الأعداء الوجوديون لحركة النهضة. ولكنّ أغلب هؤلاء حكمهم منطق الرغبة لا منطق الواقع، فتمثّلوا إجراءات الرئيس باعتبارها خطوة ضرورية لتخليصهم من خصمهم الأيديولوجي بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية،
الخطأ القاتل لعشرية الانتقال الديمقراطي هو في خضوعها لابتزاز المجتمع المدني ولتغول النقابات المهنية، بل هو قبل ذلك في فهم القوى الإصلاحية والثورية لفاعلية "الانتقال الديمقراطي" حين ينحصر في المستوى السياسي المحض. وهو ما فهمه "تصحيح المسار"، فلم يركن إلى كل "القوى الديمقراطية" التي مهدت له وساندته بعد 25 تموز/ يوليو 2021،
وهي خطوة كانوا يتوهمون أنه سيتبعها بالضرورة انفتاح على "كفاءاتهم" وإشراك لهم -ولو بصورة جزئية ومحدودة- في إدارة الشأن العام. ولكنّ النظام أظهر أنه لم يأت ليشتغل بمنطق المناولة لفائدة من يسمون أنفسهم "عائلة ديمقراطية"، وأكد أنه يشتغل لحسابه الخاص بسردية أساسها "حرب التحرير الوطني"، ومقاومة كل مظاهر الارتباط/الاستقواء بالخارج أو ما يسميه بـ"الإمبريالية والصهيونية العالمية".

في الظاهر، كان ملف الفساد المالي الداخلي والعلاقة بالمال السياسي الفاسد وبالجهات الخارجية المانحة؛ من أهم الملفات التي تسببت في توتير العلاقة بين النظام وبين العديد من مكوّنات المجتمع المدني، ولكنّ الحقيقة أعمق من ذلك. فالمجتمع المدني لا يمكن فصله عن الديمقراطية التمثيلية بما فيها تلك الديمقراطية الصورية كما كان الشأن زمن المخلوع بن علي، كما أن المجتمع المدني رغم دوره في خدمة السلطة القائمة قبل الثورة، لم يكن مجرد ديكور أو أداة بين أيدي السلطة أو ذراع أيديولوجي خاضع بصورة مطلقة لها، بل كان أيضا -بحكم ارتباطاته الخارجية من جهة التمويل والمشترك الأيديولوجي- يضغط على السلطة لتبني خيارات/ إملاءات أجنبية، تحت غطاء "حقوق الإنسان" و"التمكين للمرأة" و"مقاومة الرجعية والتطرف" وتفكيك بنية المجتمع الذكورية، وغير ذلك من الشعارات "الحداثوية" التي كرّست التبعية الثقافية باعتبارها القاعدة الصلبة للتبعية الاقتصادية والسياسية، على الأقل بمنظور الاستعمار الجديد الفرنسي.

بالمعنى العميق للسلطة، كان المجتمع المدني -والمنظمات المهنية مثل اتحاد الشغل واتحاد الفلاحين ومنظمة الأعراف- جزءا من منظومة الحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا وتأسيس الدولة-الأمة بالمفهوم البورقيبي للكلمة، وكان هذا المجتمع المدني -في الأغلب الأعم من مراحل علاقته بالنظام- يلعب دورا وظيفيا في خدمة السردية الرسمية وترويجها داخليا والدفاع عنها أمام القوى الخارجية. كان المجتمع المدني "شريكا" للسلطة ولم يكن بالضرورة جزءا من نواتها الصلبة، فهو أقرب إلى المكون "الزبوني" منه إلى المكون "الريعي" أو الجهوي المتحكم في
مراكز القرار"السيادي" -بالمعنى الذي لكلمة "السيادة" في "كيان وظيفي" يفتقد أبسط مقومات السيادة الحقيقية على أرضه- وكانت "جمعية النساء الديمقراطيات" جزءا من النسيج الجمعياتي الذي يتحرك تحت سقف تلك الدولة منذ تأسيسها سنة 1989.

في التحليل السياسي قد لا نحتاج إلى التذكير بأن الحديث عن المصادفة هو ضرب من العجز عن التفسير الموضوعي، وهي قاعدة نستحضرها عند تزامن حدثين تزامنا أبعد ما يكون عن الصدفة: أولا مشاركة حركة النهضة في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 وشعور النظام بعمقها الشعبي الذي يهدد شرعيته الهشة، ورفضه بالتالي منحها تأشيرة العمل القانوني بعد أن سمح لها بالمشاركة في الانتخابات بقوائم مستقلة؛ ثانيا منح تأشيرة العمل لجمعية النساء الديمقراطيات في السنة نفسها. كان "صانع التغيير" الجنرال بن علي محوجا إلى بناء جبهة إسناد تتجاوز انفتاح حزبه الحاكم -أي التجمع الدستوري الديمقراطي- على "القوى الديمقراطية" المتشكلة أساسا من اليسار الوظيفي بشقيه الماركسي والقومي، وكانت سردية النظام المنافحة عن "مكاسب المرأة" تحتاج إلى ظهير مستقل ظاهريا، ولكنه لا يرفض علاقة التعامد أو التخادم مع السلطة الحاكمة في حربها على حركة النهضة وعلى كل مظاهر التدين ذات الشحنة السياسية/ الأيديولوجية مثل "اللباس الطائفي"، أي الحجاب.

كانت حرب المخلوع ضد حركة النهضة تحتاج إلى "النساء الديمقراطيات"، مثلما احتاجت إلى "الوطنيين الديمقراطيين" في أجهزة القمع الأيديولوجية والبوليسية. فاليسار -بدرجات متفاوتة- هو "الابن الطبيعي" للبورقيبية ولسرديتها التحديثية اللائكية، وهو بالتالي مؤهل للتحالف الاستراتيجي مع وريثه المخلوع بن علي. فبمنطق "التناقض الرئيس والتناقض الثانوي" فإن عداء اليسار للإسلاميين -أي الرجعية الدينية- مُقدّم على أي عداء آخر لمنظومة القمع والاستبداد -أي الرجعية البرجوازية- ولذلك فإن أغلب اليساريين قد "أجّلوا" مواجهة النظام تكتيكيا وساندوه في حربه على عدوهما الاستراتيجي المشترك: الإسلاميين، وهو تأجيل لم تستطع الثورة ذاتها أن تغير فيه شيئا. ولذلك وجدنا أغلب مكونات اليسار تتحالف موضوعيا مع النواة الصلبة لمنظومة الحكم وتدعم مرشحيها وتحارب أعداءها منذ المرحلة التأسيسية، مرورا بمرحلة الترويكا والتوافق وانتهاء بـ"تصحيح المسار".

ولو عدنا إلى مواقف "النساء الديمقراطيات" من أهم القضايا لما وجدنا فيها اختلافات جوهرية عن مواقف "العائلة الديمقراطية"، خاصة منها "الوطد" (أي الوطنيين الديمقراطيين). فالنساء الديمقراطيات قد تبنين سردية اليسار الوظيفي في كل القضايا، مثل الجهاز السري والتسفير والاغتيالات السياسية والإسلام السياسي والملفات الإقليمية، فضلا عن استصحاب السردية النسوية التقليدية -أي اللائكية/الجندرية الفرنسية- في مقاربة قضايا المرأة بمنظور استعلائي إقصائي لكل النساء اللاتي لا يشبهن "المرأة الديمقراطية".

رغم أن الآباء المؤسسين للجمهورية الثانية قد اشتغلوا بتأسيس "جمهورية ثانية"، فإن المنطق الذي حكمهم وموازين القوى التي حددت سقف تحركهم قد جعلت من تلك الجمهورية مجرد امتداد للجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية مع بعض التعديلات السطحية. ففضلا عن اعتماد منطق "استمرارية الدولة" الذي فتح الباب أمام إعادة تدوير الرأسمال البشري لنظام المخلوع وللسردية البورقيبية على حد سواء، فإن حصر "الانتقال الديمقراطي" في المستوى السياسي والمؤسساتي دون المجتمع المدني والنقابات قد وضع الانتقال كله تحت رحمة تلك القوى المرتبطة فكريا وبنيويا بالمنظومة القديمة. ولذلك كان تغني رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ بنجاح الانتقال الديمقراطي السياسي وبضرورة المرور إلى الانتقال الاقتصادي؛ ضربا من المجاز أو التزييف. فإعادة الهندسة الاجتماعية لا يمكن أن تنجح دون المقاربة النقدية لسردية "الاستعمار الجديد" أي البورقيبية، ولا يمكن للمجتمع أن يتقدم بوجود قوى ردة -منها النساء الديمقراطيات- عاجزة عن قبول التغير أو المنافسة في مناخ ديمقراطي حقيقي؛ أساسه إعادة التفاوض على المشترك الوطني بعيدا عن الاملاءات الخارجية والقضايا الصغرى والاستعلاء المعرفي الكاذب.

إن الخطأ القاتل لعشرية الانتقال الديمقراطي هو في خضوعها لابتزاز المجتمع المدني ولتغول النقابات المهنية، بل هو قبل ذلك في فهم القوى الإصلاحية والثورية لفاعلية "الانتقال الديمقراطي" حين ينحصر في المستوى السياسي المحض. وهو ما فهمه "تصحيح المسار"، فلم يركن إلى كل "القوى الديمقراطية" التي مهدت له وساندته بعد 25 تموز/ يوليو 2021، سواء في الأحزاب أو في المجتمع المدني أو في الاتحاد العام التونسي للشغل.

إذا كان "تصحيح المسار" قد بشّر بنهاية زمن الأحزاب، فإن نهاية الأحزاب تعني بالضرورة نهاية الديمقراطية التمثيلية كلها، بما في ذلك ما يسمى بـ"المجتمع المدني"، والعمل النقابي غير الخاضع لإملاءات النظام والمدافع عن خياراته الكبرى (كما كان الشأن زمن المخلوع). وهو أمر لم تفهمه "القوى المدنية" بحكم مرضها بـ"متلازمة النهضة

لقد أدرك النظام الحالي أنه لا يستطيع أن يحكم بوجود أجسام وسيطة لا ترتبط به جوهريا ولا تواليه بصورة مطلقة. ولذلك بادر إلى إلغاء مخرجات "العشرية السوداء" مثل المؤسسات الدستورية، ثم حافظ على مسافة من الاتحاد ومن أحزاب "الموالاة النقدية"، ورفض كل دعوات "الحوار الوطني"، ولم يقبل يوما بالانفتاح على "الكفاءات الوطنية" المنتمية إلى تلك الأجسام لإدارة الشأن العام (السلطة التنفيذية)، فما بالك بإشراكها في مراكز اتخاذ القرار (السلطة التوجيهية).

مهما كان موقفنا من "تصحيح المسار"، فإنه قد أظهر الحجم الحقيقي لكل الأطراف الفاعلة في المشهد التونسي، كما أظهر زيف العديد من السرديات التي طالما تغنت ببطولات نضالية وبمكاسب اجتماعية لم تكن في جوهرها إلا "تنازلا مؤقتا" كان من مصلحة الدولة العميقة أن تقوم به، في إطار استراتيجيتها لإعادة التموضع والانتشار. وبصرف النظر عن مدى اتصاف النساء "الديمقراطيات" بالديمقراطية في إطار سردية لا علاقة لها بالاحتياجات الحقيقية للمقهورات ماديا ورمزيا (بل في غياب "رجال ديمقراطيين")، فإن تعليق نشاط هذه الجمعية لمدة شهر هو أمر منطقي، ففلسفة "تصحيح المسار" تنظر بعين الريبة لكل الأجسام الوسيطة غير المرتبطة به نشأة ووظيفة. كما أن "الديمقراطية القاعدية" أو المباشرة ترفض الاعتراف بوجود أي شرعية أو تمثيلية للشعب خارج أذرعها الرسمية.

وإذا كان "تصحيح المسار" قد بشّر بنهاية زمن الأحزاب، فإن نهاية الأحزاب تعني بالضرورة نهاية الديمقراطية التمثيلية كلها، بما في ذلك ما يسمى بـ"المجتمع المدني"، والعمل النقابي غير الخاضع لإملاءات النظام والمدافع عن خياراته الكبرى (كما كان الشأن زمن المخلوع). وهو أمر لم تفهمه "القوى المدنية" بحكم مرضها بـ"متلازمة النهضة" وحنينها إلى الديمقراطية الصورية (أي حنينها إلى زمن هيمنة "الأقليات الأيديولوجية" بعيدا عن الاحتكام إلى الإرادة الشعبية)، ولكنّ سياسات النظام الحالي ستجعلها تفهم -بل تقبل صاغرة- بتداعيات "العمى الأيديولوجي" على أصحابه قبل غيرهم.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)