قضايا وآراء

رهان الانتخابات الرئاسية وتأثيره في إعادة هندسة الحقل السياسي في تونس

عادل بن عبد الله
كيف سيواجه سعيد معارضيه؟- عربي21
كيف سيواجه سعيد معارضيه؟- عربي21
رغم المساندة الشعبية الضعيفة في كل "المحطات التاريخية" التي رجع الرئيس فيها إلى إرادة الناخبين، كما هو الشأن في الاستشارة الوطنية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور وانتخابات مجلس النواب، ورغم سقوط سردية الإصلاح ومقاومة الفساد، أو على الأقل فقدانها لجزء كبير من جاذبيتها وقدرتها على التحشيد الشعبي، يبدو أن الرئيس التونسي ما زال مصرا على فرض التأسيس الجديد أو "التأسيس القاعدي"، بما هو قطع مع الديمقراطية التمثيلية وفلسفتها ونظامها السياسيين وأجسامها الوسيطة، خاصة الأحزاب، أو بالأحرى بما هو تكريس لنظام سياسي رئاسوي تتجمع فيه كل السلطات بين يدي ساكن قصر قرطاج ومَن يدعمونه في المركّب- المالي- الجهوي- الأمني، أي النواة الصلبة للحكم قبل الثورة وبعدها.

لفهم أهمية الرهان الانتخابي الرئاسي، يكفي أن نعود إلى بعض تصريحات السيد قيس سعيد بشرط أن نقرأها في بنيتها العميقة، أي في مقدماتها ولوازمها المنطقية. فأن يصرّح الرئيس قيس سعيد في ذكرى وفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بأن "هناك انتخابات بالفعل، والشعب هو الحَكَم"، وأن يصرح أيضا بأن "مسألة الترشح سابقة لأوانها" أو بأنه لا يشعر بأنه "منافسة أي كان"، لا يجب أن ينسينا بأنه قال أيضا: "أشعر أنني أتحمل المسؤولية ولن أتخلى عن المسؤولية".

نزع صفة "الوطنية" عن خصوم الرئيس ليست مجرد استراتيجية خطابية لإدارة الصراع بأدوات سياسية، بل هي استراتيجية سلطوية تُثنّي "الوصم الخطابي" بملفات قضائية استهدفت أغلب المنافسين المحتملين للرئيس في الانتخابات الرئاسية القادمة

فإذا كانت السردية الرئاسية تحاول "أمثلته" وجعله استثناءً من جهة الشعور بالمسؤولية والزهد في امتيازات السلطة (صرّح بأن الترشح لا يخامره، بل يخامره الشعور بالمسؤولية)، واستثناءً من جهة "الصدق" و"الأمانة" و"الوطنية"، فإن النتيجة المنطقية هي أن الرئيس لن يترك "وطنه" لغير الوطنيين. وهو ما يعني واقعيا أن الرئيس سيدعو لانتخابات 2024 وسيترشح فيها، ولكنّ "المسؤولية" تفرض عليه هندسة الحقل السياسي بصورة يستحيل معها بلوغ "غير الوطنيين" سدّة الحكم في قرطاج.

إن نزع صفة "الوطنية" عن خصوم الرئيس ليست مجرد استراتيجية خطابية لإدارة الصراع بأدوات سياسية، بل هي استراتيجية سلطوية تُثنّي "الوصم الخطابي" بملفات قضائية استهدفت أغلب المنافسين المحتملين للرئيس في الانتخابات الرئاسية القادمة. فـ"التآمر على أمن الدولة" والتخابر مع جهات أجنبية أو تحريض الأهالي على التقاتل أو بث الكراهية بينهم، أو حتى استهداف الشعب في قوته من خلال شبكات الاحتكار "المفترضة"، هي كلها تهم لا يمكن أن تكون إلا المقابل المفهومي للوطنية. وفي مناخ عام يختفي فيه التمايز بين السياسي والأمني والقضائي، وتصبح فيه "الشبهة" مساوية للتهمة أو الإدانة، فإنّ نظام التسمية "الشرعي" الأوحد سيكون هو نظام التسمية السلطوي. فمن تصِمه السلطة وأجهزتها الأمنية بـ"اللا وطنية"، سيكون على الأرجح "لا وطنيا" من منظور القضاء، بل سيكون "لا وطنيا" عند جزء من الشعب بحكم تحوّل أغلب المنابر الإعلامية العمومية والخاصة إلى أدوات دعائية للنظام.

في مواجهة الفاعلين الحزبيين والأيديولوجيين الذين هيمنوا على ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، كان الرئيس قد حرص منذ دخوله الحقل السياسي على تأكيد "استثنائيته" واختلافه الجذري عنهم. فـ"الخبير الدستوري" لا حزب له ولا أيديولوجيا نسقية، ولا برنامج له إلا التمكين لإرادة "الشعب" وخياراته. وقد تحرك دائما من موقع الإدانة القيمية للمنظومة كلها بحكامها ومعارضتها ومؤسساتها الدستورية وغير الدستورية. وقد كان انتخابه في جوهره انتخابا عقابيا لمجمل المنتظم السياسي ووسائطه الحزبية، ولم يكن إيمانا بمشروع "التأسيس القاعدي". ولكنّ الرئيس اعتبر وصوله إلى قصر قرطاج "تفويضا شعبيا عاما" للقيام بـ"التأسيس الثوري الجديد" وفرض مشروعه السياسي (وهو مشروع لا تخفى فيه التأثيرات الوطدية، أو تأثيرات اليسار الهوياتي الفرنكفوني المطبّع مع النواة الصلبة لمنظومة المخلوع رغم كل المزايدات الثورجية).

الرئيس اعتبر وصوله إلى قصر قرطاج "تفويضا شعبيا عاما" للقيام بـ"التأسيس الثوري الجديد" وفرض مشروعه السياسي (وهو مشروع لا تخفى فيه التأثيرات الوطدية، أو تأثيرات اليسار الهوياتي الفرنكفوني المطبّع مع النواة الصلبة لمنظومة المخلوع رغم كل المزايدات الثورجية)

إن الخطورة في هذا المنطق تكمن في أن الرئيس قد فهم النتائج الانتخابية ومن بعدها "إجراءات 25 تموز/ يوليو" على أنها تفويض شعبي عام لإدارة "المشروع السياسي" والإشراف الشخصي عليه. وهو تفويض نهائي وغير قابل للسحب ولا للمساءلة والمحاسبة (على خلاف باقي الفاعلين). فالشعب قد فوّض الرئيس بشخصه (ولذلك لا يوجد أي رجل ثان في النظام، بل لا يوجد أي منافس للرئيس من داخل منظومة الحكم)، كما حمّله الشعبُ "الأمانة" التي لا يمكن أن تنفك عن صاحبها ما دام موفيا بشروطها (رغم أنه لا يوجد أي معيار موضوعي لقياس ذلك).

إنها أمانة على الرئيس أن يحملها "مدى الحياة" وعليه أن يحول بين السلطة وبين من يدعي القدرة على حملها من "اللا وطنيين". ولا شك في أن هذا المنطق السياسي (منطق شبه المهدوي، شبه الشيوعي) سيمنع أي تداول على السلطة حتى من داخل النظام ذاته، فما بالك بمن يتموضعون بالتقابل معه. كما لا شك عندنا في أن كل ما فعله الرئيس لتركيز "التأسيس القاعدي" ليس بحثا عن "تشاركية" من نوع مختلف عن توزيع السلطات في الديمقراطية التمثيلية، بل هو مجرد تنويعة في تاريخ "الديمقراطية الصورية" لتغطية حقيقة مركز القرار والأطراف المتحكمة فيه واقعيا.

يعلم الرئيس جيدا أن بقاءه في قصر قرطاج ليس مرتبطا آليا بحجم الدعم الشعبي، كما يعلم أن "الشرعية" و"المشروعية" هي من الكلمات التي لا تتجاوز قيمتها القيمة المعجمية بعد فشل السردية "التأسيسية" وغياب أي منجز اقتصادي. ولا يخفى على الرئيس أيضا أنّ الحكم لا يحتاج إلى سلطة قوية وناجعة؛ بقدر ما يحتاج إلى الإبقاء على المعارضة في حالة ضعف وتشتت.

ونحن لا نقصد بالمعارضة فقط تلك الأطراف التي أعلنت معارضتها الجذرية للرئيس واعتبرت كل إجراءاته منذ 25 تموز/ يوليو 2021 إجراءات غير شرعية، بل نقصد أيضا تلك الأطراف التي تنتمي للموالاة النقدية (مثل اتحاد الشغل)، أو تعارض الرئيس لكن على قاعدة الاشتراك في رفض العودة إلى ما قبل "الإجراءات" وفي معاداة حركة النهضة (السيدة عبير موسي وحزبها الدستوري الحر).

إن الاستعداد "الجيد" للموعد الانتخابي الرئاسي القادم، يفرض على الرئيس التعاطي مع ثلاثة مسارات أو ثلاثة ملفات مختلفة: أولا، إكمال التنظيم الجديد للسلطات بالدعوة إلى انتخابات المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم. وهي خطوة ذات بُعد رمزي كبير لأنها تنهي عملية "التأسيس القاعدي" كما ستوفر للرئيس حزاما سياسيا وآلة دعائية خلال الحملة الانتخابية (صدور المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجلس الأقاليم).

أما الملف الثاني فهو ملف "المعارضة الجذرية، فرغم مقاطعة هذه المعارضة لكل "المحطات التاريخية" التي رجع فيها الرئيس لصناديق الاقتراع، فإنّ إمكانية اتفاقها على شخصية ما لمنافسة الرئيس في الانتخابات القادمة تظل قائمة (خاصة بعد فشل استراتيجية المقاطعة في إضعاف السلطة أو دفعها للتراجع). ولذلك يحرص الرئيس على تحويل هذا الملف السياسي إلى ملف أمني- قضائي لاستبعاد كل من يعارضه في هذه الدائرة.

إضعاف المعارضة الجذرية سيكون مجرد خطوة بلا قيمة إذا ما بقي هناك أي منافس جدي قد تدعمه "الموالاة النقدية"، أو قد يكون بديلا للرئيس عند النواة الصلبة للنظام ورُعاتها الإقليميين والدوليين منافسيه المحتملين

ولكنّ إضعاف المعارضة الجذرية سيكون مجرد خطوة بلا قيمة إذا ما بقي هناك أي منافس جدي قد تدعمه "الموالاة النقدية"، أو قد يكون بديلا للرئيس عند النواة الصلبة للنظام ورُعاتها الإقليميين والدوليين منافسيه المحتملين. وهو ما يعني أن من مصلحة الرئيس -في الملف الثالث- إضعاف رموز هذه الدائرة والاستفادة من صراعاتها البينية (كما حصل مؤخرا من صراع مفتوح بين المركزية النقابية والإعلاميين من جهة، وبين زعيمة الحزب الحر الدستوري من جهة أخرى).

فإضعاف اتحاد الشغل سيجعله غير قادر على رفض أي اتفاقيات قطاعية أو أية إملاءات خارجية (في صورة حصول اتفاق بين الحكومة وصندوق النقد الدولي)، كما سيجعل الاتحاد عاجزا عن توتير المناخ الاجتماعي في فترة الانتخابات الرئاسية بأية صورة كانت. أما إضعاف زعيمة الحزب الدستوري الحر فإنه سيجعلها بديلا مستبعدا وسيبقيها في دائرة "الملحق الوظيفي" بالسلطة القائمة وبالنواة الصلبة للحكم.

وإذا ما نجح الرئيس في إدارة هذه الملفات بصورة فعالة، فإن فُرص فوزه بعهدة رئاسية أخرى ستكون هي الفرضية الأرجح، بل هي الفرضية العقلانية الوحيدة في مشهد عبثي تحوّلت فيه المعارضة واقعيا -بحكم صرعاتها البينية وعجزها عن التوحد وتقديم أي بديل ذي مصداقية لدى عموم الشعب- إلى أكبر "حليف موضوعي" للنظام، بصرف النظر عن نوايا تلك المعارضة ومقاصدها.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (1)
متابع
الأحد، 04-06-2023 06:05 ص
لو اتفقت المعارضة على مرشح قومي من مستوى المرزوقي (لكن ليس المرزوقي نفسه وبكارزما مختلفة)؛ فأظنه سيكون قادرا على فرض نفسه على الجميع، إسلاميين وقوميين، ومن عامة الشعب؛ وهنا يمكن أن يكون قادرا على إزاحة المنقلب. وإذا لم تقم المعارضة بمبادرات حقيقية في هذا الإطار؛ فلن تقوم لتونس قائمة من بعد إلا بعد زمن طويل..