هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يدخل لبنان تجربة هي الثالثة مع الفراغ الرئاسي في «الجمهورية الثانية». تلك المدعوة كذلك من بعد إدخال معظم الإصلاحات المقرة في اتفاق الطائف 1989 من بعد سنة على إبرامه، في متن الدستور اللبناني بتاريخ 21 أيلول / سبتمبر 1990. أي قبل أسابيع قليلة من الهجوم العسكري السوري على مناطق سيطرة العماد ميشال عون آنذاك، هذا الهجوم الذي أنهى الحرب اللبنانية ودثر معها في وقت واحد معالم السيادة الوطنية للدولة.
في جمهورية ما قبل الطائف، أوجد للفراغ الرئاسي عرفٌ يخفف من وطأته. عرفٌ فرض نفسه في لحظة من بعد استقالة رئيس الجمهورية المجدد له بشارة الخوري بعد انتفاضة سياسية واسعة عليه عام 1952. وهو أن يتولى قائد الجيش، اللواء فؤاد شهاب آنذاك، الماروني هو الآخر كحال رئيس الجمهورية – على ما رست عليه توزيعات المناصب في نموذج الدولة الطائفية المركزية «الميثاقية» – رئاسة حكومة عسكرية مؤقتة هدفها تأمين الفترة الانتقالية إلى حين انتخاب رئيس جمهورية جديد.
هذا العرف تحرك كشبح مرة جديدة غداة ثورة 1958 على حكم كميل شمعون. ولعل إثارته كسيناريو منتظر في أشهر تلك الأزمة الأهلية الحادة والدامية والمنتهية بتدخل لقوات المارينز الأمريكية، هو الذي عزز من قيمته كعرف.
لكن شمعون تمسك برئاسته حتى اليوم الأخير منها، فيما انتُخِب شهاب رئيسا قبل أسبوع من نهاية عهده. لم يستخدم هذا العرف إذن عام 1958، لكنه بقي في الحسبان على امتداد أشهر الأزمة، وهذا ما وطده بعد أكثر كعرف من سابقة استخدامه عام 52.
كذلك، لم يكن في دستور تلك الأيام، ما قبل التعديل الذي فرضه اتفاق الطائف على المادة 49 ما يمنع انتخاب قائد الجيش أو حاكم المصرف المركزي (أبرز وظيفتين على رأس جهاز الدولة معقودتين للموارنة، إلى يومنا هذا) للرئاسة. وعلى هذا الأساس انتُخِب قائد الجيش رئيسا عام 58، وحاكم المصرف المركزي إلياس سركيس رئيسا عام 76 (بعد أن رشحه الفريق الشهابي «النهج» للرئاسة عام 1970، وخرج خاسرا أمام مرشح الغلو الماروني آنذاك سليمان فرنجية).
أما مع الطائف، ومن ثم بعد التعديلات المدخلة بناء عليه في متن الدستور اللبناني (لأن إدخالها في الدستور خضع لمصفاة القبضة السورية بشكل أساسي، وهي لم تتقيد بعدد النواب الذي حدده الطائف، وأسقطت من المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور)، فقد اعتبر العرف القاضي بترئيس قائد الجيش حكومة مؤقتة منقضيا. بما أن هذا العرف كان استخدم في إثر وقوع الشغور بالرئاسة مع انتهاء عهد أمين الجميل في أيلول/سبتمبر 1988، فتولى قائد الجيش ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية المؤقتة، التي ما إن شكلها حتى استقال منها الضباط المسلمون الثلاثة، ما أوجد وضعية انقسام بين «حكومتين»: عون الماروني ووزيراه الأرثوذكسي والكاثوليكي في «الشرقية»، يقابله في «الشرقية» سليم الحص، رئيس الحكومة بالوكالة في آخر عامين من عهد الجميل، أي إثر اغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي عام 1987.
ما يجعل التجربة الثالثة للفراغ أخطر من سابقاتها، لا يرتبط فقط بالوضع الانهياري الشامل للبلد، إنما بمفارقة مزدوجة على صعيد النظام السياسي
المفارقة أنه رغم أن عرف تولية قائد الجيش رئاسة الحكومة المؤقتة قد انقضى في الطائف، ورغم أن المادة 49 أوصدت الباب أمام انتخاب قائد الجيش، فإن «الجمهورية الثانية»، ما بعد تعديلات أيلول/سبتمبر 1990 لم تعرف إلا رئيسا مدنيا وحيدا للجمهورية، هو الراحل إلياس الهراوي. في حين تنقسم كل مرحلة ما بعد الهراوي، أي منذ 1998 إلى اليوم، ما بين ثلاثة رؤساء قادمين من العسكر، إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، شغلوا قصر بعبدا بما مجموعه 19 عاما، وتجربتي شغور في القصر، واحدة لنصف العام، بين لحود وسليمان، والثانية لعامين ونصف بين سليمان وعون، وها نحن ندخل في الثالثة.
ما يجعل التجربة الثالثة للفراغ أخطر من سابقاتها، لا يرتبط فقط بالوضع الانهياري الشامل للبلد، إنما بمفارقة مزدوجة على صعيد النظام السياسي. فمن جهة، البلد بلا رئيس، وبرئيس حكومة مستقيلة حكما بعد إجراء الانتخابات النيابية، رئيسها هو الرئيس المكلف أيضا بتشكيل واحدة جديدة، لكنه لم يتوصل إلى اتفاق بهذا الشأن مع عون حتى اليوم الأخير من ولايته. والبرلمان لا يحق له القيام بأي عمل تشريعي قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنه مع ذلك لا يتمكن من القيام بهذا الانتخاب.
كل هذا من جهة احتضار المؤسسات، تقابلها من الجهة الأخرى، واقعة أن هذا النظام الموميائي بهذا الشكل، تخللته في الوقت نفسه عملية ضخ حيوية وعبثية في آن. إذ جرت انتخابات نيابية في أيار/ مايو من هذا العام، انتخابات تعددية تنافسية من بين أفضل ما يمكن تحصيله في البلدان العربية. وفي المقابل، لم يفلح البرلمان الجديد في ما يفترض به أن يكون ألفباء النظام البرلماني؛ أن تنبثق حكومة من البرلمان.
في النظام البرلماني، يفترض أن يكون هذا الانبثاق أسهل بعد الانتخابات. وفي النظام البرلماني أيضا، إذا كانت الانتخابات لم تأت ببرلمان قادر على أن يخرج بحكومة جديدة، أو برئيس دولة جديد في حال كان الأخير على رأس السلطة التنفيذية (بما يجعله نظاما برلمانيا مهجنا في هذه الحالة)، فالأحرى الذهاب إلى انتخابات مبكرة. لكن، ليس هناك في كامل التركيبة الدستورية بلبنان ما يرادف الذهاب إلى انتخابات مبكرة. تاريخ البلد يعرف أنماطا من التمديد للبرلمانات وليس للتبكير بها.
يفصل أقل من نصف عام بين الانتخابات التشريعية الأخيرة وبين فشل البرلمان في اجتناب الفراغ في كرسي الرئاسة. في حين كانت المدة الزمنية أكبر بين انتخابات 2005 وشغور 2007 وبين انتخابات 2009 وشغور 2014.
لو كان الشغور الثالث تتمة مثلا للفشل في انتخاب برلمان جديد، لكان النموذج مختلفا. لكنه نظام سياسي قادر على تأمين انتخابات نيابية «مقبولة»، وغير قادر على صرفها في أي شيء. عودة للصناديق، إنما بلا رصيد.
يقترن ذلك مع اختلاف في السياق السياسي. أواخر العام 2007، دخلنا في الشغور، ومعه في الوقت نفسه، الاتفاق على أن سليمان هو المرشح التوافقي الذي يدور الصراع حول شروط التوافق عليه، إلى أن حصل ذلك من بعد جولة «حزب الله» التغلبية في «7 أيار». أما عام 2014، فدخلنا في «اشتراطية» من «حزب الله»، إما عون أو لا رئيس، إلى أن استجاب سمير جعجع وسعد الحريري لذلك في آخر الأمر.
أما اليوم، فالشغور يكاد يكون مطلوبا لذاته. ليس هناك مرشح توافقي جامع من حيث المبدأ، ينتظر تتميم ملفه تطبيقيا، كما كانت الحالة مع سليمان أواخر مرحلة التمديد للحود. وليس هناك مرشح إما هو أو لا أحد، كعام 2014. هناك كتلة متراصة من الأوراق البيض يتجنب من خلالها «حزب الله» اختيار أحد حليفيه، جبران باسيل وسليمان فرنجية، دون الآخر. أو من زاوية أخرى، يختارهما معا.
وهناك شبه استحالة في المقابل، على مستوى الأوراق غير البيض، من الاتفاق على اسم يربح، لا سيما وأنه قد افتُعل عرف يشترط نصاب الثلثين، ما يعني أن الطرف الخاسر عليه أن يسهل المهمة للرابح، دون أن يكون هناك نص يجبره على الحضور في الوقت نفسه! البرلمان «الطازج» الحالي، يجعل انتخاب رئيس جديد، مهمة أكثر صعوبة بكثير من نموذج الفراغين السابقين.