مقالات مختارة

عودة برلسكوني: أيّ أثمان سوف تدفع إيطاليا؟

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

ليس في الإمكان أفضل مما كان، يجوز القول تعليقاً على موقف الاتحاد الأوروبي من زجاجات الفودكا التي أرسلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى صديقه سلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق على ثلاث دفعات، بمناسبة عيد ميلاد الأخير: إنها (الزجاجات الـ20، في التأويل الأخبث المشروع) تخرق العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو! وأمّا صيغة «لا تعليق» فإنها الخيار الذي احتكم إليه مسؤولو الاتحاد، رداً على التسريبات الصوتية الأخرى التي نقلت مواقف برلسكوني الحقيقية من الاجتياح الروسي لأوكرانيا: أنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي هو الذي بدأ الحرب، واستفزّ بوتين؛ وأنّ الأخير هبّ دفاعاً عن الروس في دونباس، لكن العملية المحدودة التي كانت أهدافها احتلال أوكرانيا وإسقاط زيلنسكي أصبحت الآن حرب الـ200 سنة.

 

في التسريبات الأخرى ثمة ما هو طريف (أنّ برلسكوني هو أحد خمسة أصدقاء مقربين من بوتين، على نطاق العالم)؛ وما هو جامع بين البلاهة والطراز المَرَضي من الغطرسة (أنه ليس في الغرب قادة بالمعنى الحقيقي وأنه، أي برلسكوني، القائد الحقيقي الوحيد)، وهذا الشطر الذي يخصّ الغرب (بالمعاني الجغرافية والحضارية والجيو – سياسية والأطلسية تحديداً) يكتسب دلالة بالغة الخصوصية بالقياس إلى مواقف برلسكوني المأثورة تجاه «العوالم» الأخرى خارج نطاق الغرب، خاصة تلك التي لا تعتمد القِيَم اليهودية – المسيحية عموماً، وتلك الإسلامية بصفة خاصة. إنه القائل، بالفم الملآن ومن موقع رئاسة الحكومة وليس من مقاعد المعارضة أو خلال تسريبات صوتية: «حضارتنا متفوّقة على حضارتهم (المسلمين أساساً، وشعوب الأرض الأخرى غير الأوروبية قاطبة وضمناً)، ولهذا ينبغي على الغرب، واستناداً إلى تفوّق قِيَمه، أن يُغَرْبن Occidentalize ويغزو Conquer شعوباً جديدة». وكي يضرب أمثلة من العالم المحسوس، وليس العالم الافتراضي وحده، استذكر أنّ «الغرب فعلها مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم الإسلامي، ولكن للأسف مع جزء من العالم الإسلامي يعود إلى 1400 سنة إلى الوراء».

 

هذه، في قراءة أخرى لا يصحّ إغفالها، استعادة جديدة للمهمّة العتيقة التي ظنّ الغرب ــ و»الرجل الأبيض» في عبارة أوضح ــ أنها ملقاة علي عاتقه: «المهمة التمدينية» Mission Civilisatrice التي تحدّث عنها الشاعر البريطاني الكولونيالي روديارد كبلنغ: «فاحملْ عبء الرجل الأبيض/ واصنعْ لحروب الهمج السلام». الفارق أنّ برلسكوني نطق بما كان، ويظلّ اليوم أيضاً، يعتمل في صدور رهط واسع من الساسة وصانعي القرار وخبراء الستراتيجيات والمعلّقين في الولايات المتحدة والغرب إجمالاً، إذا وضعنا جانباً مشاعر الشرائح الأعرض في ما تطلق عليه العلوم الاجتماعية توصيفات مثل «الدهماء» أو «الشارع» أو «السواد الأعظم». فارق برلسكوني أنه تجاسر على النطق في أزمنة جعلت الآخرين يجنحون إلى الكتمان أو اللغة الدبلوماسية أو الألعاب اللفظية، كأن يردّد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن تعبير «الحملة الصليبية» ثم يتراجع عنه تدريجياً حرصاً على مشاعر المسلمين؛ أو أن يختار البيت الأبيض للعمليات العسكرية/ المجازر المقبلة في العراق تسمية «عدالة لانهائية»، ثمّ يستبدلها سريعاً بتسمية أخرى لا تخلط بين عدالة الأرض وعدالة السماء… كرمى لمشاعر المسلمين هنا أيضاً!

 

والموقف الإيطالي الرسمي في الاصطفاف التامّ خلف الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق، كما رسمه برلسكوني وأشرف على تنفيذه، كان في الواقع أقرب إلى سياسة قوامها التبعية (الغربية ذاتها، التي يسخر منها برلسكوني اليوم) وعقلية اقتناص الأرباح السريعة البادية للعيان؛ تماماً كما هي حال أيّ رجل أعمال مبتذل. أركان الموقف ذاك نهضت، أيضاً، على الغطرسة والعنصرية والتحقير الثقافي والحضاري للآخر، العربي والمسلم بصفة عامة. وحين أفادت الأخبار بمقتل 18 إيطالياً في الناصرية، لم يجد برلسكوني ضرورة لمواساة شريحة واسعة من الإيطاليين رافضي التدخل في تلك الحرب القذرة، بل صرّح بأنّ «أيّ ترهيب لن يثنينا عن التصميم على المساعدة في بعث هذا البلد [العراق]، وبناء حكومة ذاتية، وتحقيق الأمن والحرّية»! وتلك كانت بلاغة فخمة/ جوفاء تصدر عن أحد أسوأ نماذج انحطاط الديمقراطيات الغربية، حيث يُتاح لرجل الأعمال وأغنى أغنياء إيطاليا أن يشتري السياسة بالمليارات، وأن يمارسها على وتيرة عقد الصفقات التجارية أو شراء الأندية الرياضية وأقنية التلفزة أو تمويه فضائح الفساد والمباذل الجنسية…

 

صحيح أنّ برلسكوني يعود اليوم إلى الواجهة من بوّابات تحالف حزبه «فورزا إيطاليا» مع حزب جورجيا ميلوني «إخوة إيطاليا» وحزب ماتيو سالفيني «الرابطة»، وأنّ اليمين المتطرف هو الذي يعود فعلياً إلى سدّة السياسة الإيطالية؛ مؤكداً صعوداً ملحوظاً، متعاقباً ومتماثلاً وإنْ تمايز نسبياً، لليمين إياه في هنغاريا والسويد وفرنسا، وقبلها في النمسا وإيطاليا ذاتها. ليس أقلّ صحّة، في المقابل، أنّ وجود برلسكوني في الحياة السياسية الإيطالية يختلف عن صعود ميلوني وحزبها (الذي نال 4% فقط في الانتخابات العامة الماضية سنة 2018)؛ وهو فارق يخصّ الظاهرة المتأصلة لدى الأوّل، مقابل «الطفرة» التي يمكن أن تنتهي إلى الطارئ والمؤقت لدى الثانية.

 

ليست نقلة عابرة، لا قيمة لها ولا دلالة بعيدة الغور، أن يستسهل برلسكوني هجاء «الغرب»، هو الذي اعتمده مفهوماً حضارياً مسيحياً أوّلاً، ثمّ مصدر القِيَم ضمن التراث اليهودي – المسيحي تالياً، وليس بالمعنى العقائدي العريض، المكرور أو المستنسَخ أو الديماغوجي/ الشعبوي، فحسب؛ بل، أساساً، بمعنى تسخير هذا كله، وسواه، لتغذية جوع جموع حاشدة عنصرية المزاج وانعزالية الهوس تلتفّ حول «الثقافة» اليومية التي يوفّرها برلسكوني، عبر أمواله وأنديته الرياضية وأقنيته، أسوة بخطاباته الشعبوية. ولم يكن غريباً أنه سارع إلى التراجع عن الجزء الساخر من الغرب في التسريبات الصوتية، وأوكل إلى أنتونيو تاجاني منسّق «فورزا إيطاليا» أمر التشديد على «انحياز الحزب التامّ لصالح حلف الناتو والعلاقات الأطلسية والعلاقات مع أوروبا، والوقوف ضدّ الغزو الروسي غير المقبول لأوكرانيا».

 

وعودة برلسكوني اليوم تعيد التذكير بأنه، حين كان رئيس الوزراء وزعيم حزب «شعب الحرّية» قائد الائتلاف الحاكم في إيطاليا؛ كان، في الآن ذاته، مالك ثلاث أقنية أرضية من أصل سبع، مكّنته من بسط نفوذ واسع على الحياة الإعلامية، سواء في القطاع الخاص أم في القطاع الحكومي. وتلك حقبة شهدت قرار وزير الثقافة الإيطالي ساندرو باندي مقاطعة مهرجان كان السينمائي الفرنسي الشهير، احتجاجاً على عرض الشريط الإيطالي «دراكيلا، حيث ترتجف إيطاليا». ولقد اعتبر الوزير أنّ الشريط، الذي يمزج الوثيقة بالخيال، ينطوي على «إهانة للحقيقة وللشعب الإيطالي بأسره»، ولهذا فإنّ وزارته لن تشارك في المهرجان، وهو شخصياً يرفض تلبية الدعوة لحضور حفل الافتتاح. أمّا الفيلم المعنيّ فقد استحقّ سخط الوزير لأنّ مخرجته سابينا غوزاني في طليعة أشدّ منتقدي برلسكوني، وأبرعهم في استخدام الفنّ السابع لكشف مباذله وفضائحه.

 

والأصل أنّ الديمقراطيات الغربية التي تسجّل صعود يمين ميلوني وبرلسكوني وأمثالهما ليست البتة معافاة، حتى إذا كانت أمراضها عابرة أو قابلة للعلاج أو حتى تحت السيطرة. الأصل، كذلك، أنّ الشارع الشعبوي الذي يقف خلف ظواهر الصعود هذه يؤمن أنها ضامنة القِيَم والدين والهوية، ولا يبصر ما يكمن عميقاً في جذور تكوينها من عطالة إزاء معالجة العمل والتعليم والصحة والخدمات والاجتماع والحياة اليومية. جسيمة، أغلب الظنّ، سوف تكون الأثمان التي ستدفعها إيطاليا جراء عودة برلسكوني، من هذه البوّابة اليمينية المتطرفة تحديداً؛ وعلى أصعدة شتى سوف تتجاوز السياسة والاقتصاد والرياضة والإعلام، إلى الحريات العامة والمدنية وحقوق الرأي والتعبير.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل