هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سياق ثقافة الاستنساخ التي حكمتنا طيلة مرحلة الحصار الاقتصادي في التسعينيات، أمدنا الصديق صفاء صنكور في نهاية عام 1999 بكتاب عنوانه «كلمات صدام ـ الخطاب السياسي في العراق» لم يكن قد مر على صدوره سوى عام واحد للباحثة الأمريكية Afra Bengio، فقمنا باستنساخه خفية، كعادتنا في تلك الأيام. حاول هذا الكتاب دراسة الخطاب السياسي من خلال الكلمات، والمصطلحات، والمفاهيم، والعبارات، والأفكار التي نجدها في الخطابات التي يوجهها صدام حسين إلى الجمهور. وفيه رصدت الباحثة تشكيل بنية الثقافة السياسية في العراق من خلال الخطابات السياسية.
في سياق ليس ببعيد، ينشغل العراقيون اليوم بالتسريبات التي نشرت في اليومين الماضيين لما قاله المالكي في جلسة خاصة، كما يبدو. والحقيقة أنه لا جديد في خطاب المالكي؛ فهو يردد هذا الكلام دائما أمام زائريه، لكنها المرة الأولى ربما التي يظهر كلامه هذا في العلن، أما الثيمات الرئيسية في هذا الخطاب فهي تتكرر منذ أن ظهر المالكي في المشهد السياسي العراقي 2003، سواء حين كان عضوا مناوبا في مجلس الحكم عن إبراهيم الجعفري، أو نائبا لرئيس هيئة اجتثاث البعث، أو عضوا في المجلس الوطني ثم في الجمعية الوطنية، وصولا إلى تسلمه منصب رئيس مجلس الوزراء لدورتين متتاليتين، ثم تسلمه منصب نائب رئيس الجمهورية في الأعوام 2014 ـ 2018، واليوم وهو «زعيم» خارج إطار السلطة المباشرة (فاز بعضوية مجلس النواب في العام 2018 لكنه لم يردد القسم إلى لحظة حل مجلس النواب لنفسه).
وأجدنا اليوم في حاجة إلى التمعن في «كلمات المالكي» الواردة في التسريب من أجل الوقوف على طبيعة الخطاب الذي يشكل الثقافة السياسية العراقية اليوم، وهو خطاب يكاد يكون واحدا وإن كان ثمة اختلاف فهو يتعلق بدرجته فقط وليس في نوعه! في بلد يفترض أنه قاطع تراثه الاستبدادي وانتقل الى «فضاء ديمقراطي» وإن كان هذا الانتقال حدث بالقوة، وليس من خلال تطور تاريخي ذاتي أو إرادة ملموسة للطبقه السياسية!
إن المعضلة الحقيقية في العراق إنما تتعلق بطبيعة الطبقة السياسية، وثقافتها، وخطابها، وسلوكها، وأن فكرة قيام ديمقراطية بلا ديمقراطيين، هي محض خرافة.
المعضلة الحقيقية في العراق إنما تتعلق بطبيعة الطبقة السياسية، وثقافتها، وخطابها، وسلوكها، وأن فكرة قيام ديمقراطية بلا ديمقراطيين، هي محض خرافة.
بعد محاولة سحب الثقة عن المالكي والتي قادها ائتلاف عبر طائفي، تشكل من القائمة العراقية والحزب الديمقراطي الكردستاني والتيار الصدري، قال المالكي لزائريه في 6 حزيران/ يونيو 2012 أن ما يجري هي «مؤامرات تستهدف العملية السياسية والتجربة الديمقراطية» ستمنى بالفشل، وتحدث عن العامل الخارجي وقال إنه «كلما تقدمنا خطوة واجهتنا تحديات جديدة لم يكن العامل الخارجي بعيدا عنها أبدا»!
ثم يقول المالكي لمستمعيه 2012 أن انتخابات عام 2010 كانت «تدار من قبل عاصمة معينة». وأن عملية إسقاط الحكومة وسحب الثقة كانت تدار أيضا «من قبل عاصمة معينة». وأن سياسيين عراقيين «كانوا متورطين بهذه الأعمال». ليقرر أنه في المرحلة المقبلة «اللي مارسوا هذا العمل، اللي صاروا امتدادات للدول، وما أستثني دولة، ينبغي أن لا يكونوا بهذه البلد، اللي ما يؤمن بعزة العراق لا يكون بموقع المسؤولية».
في عام 2013، لم ير المالكي في احتجاجات الجغرافيا السنية سوى أنها «فتنة» مدعومة من قوى إقليمية، وأنها «ليست تظاهرًا بل هي عصيان وقطع طريق وضرب مصالح الناس» وأن الشعارات التي رفعها المتظاهرون «نتنة» والمطالب التي تقدموا بها هي «عملية انقلاب كاملة»؛ ومن ثم هدد بإنهاء التظاهرات والاعتصامات التي وصفها بالـ «الفقاعة» بالقوة « أو كما قال: «أقول لهم: انتهوا قبل أن تُنْهَوا بإرادة الحكومة»…. (لقاءات تلفزيونية مع قناتي السومرية والعراقية يوم 30ديسمبر/كانون الأول2012).
ثم سيطر تنظيم الدولة على أكثر من ثلث مساحة العراق خلال أيام سنة 2014، وحينها لم ير المالكي فيما جرى سوى أنه «مؤامرة ضد الحكومة» (خطاب متلفز يوم 11 حزيران 2014) وأن سقوط الموصل كان خيانة توقعها «عندما انسحب المكونان السني والكردي من الجيش، كل لحساباته الخاصة، فسقطت المدينة» (تصريح متلفز يوم 26 أيار 2015) وأن هذه المؤامرة «دبرت بليل»!
ثم يشرح بنفس الثقة فيما بعد تفاصيل هذه المؤامرة فيقول إنه « تم التخطيط لها في أنقرة ثم انتقلت المؤامرة إلى أربيل» (تصريح متلفز يوم 18 آب 2015)! ويصر وبعد سبع سنوات على سقوط الموصل على القول إن المدينة «لم تسقط عسكريا، وسقطت بمؤامرة»! وإلى أنه قد دون تفاصيل هذه المؤامرة في مذكراته التي ستصدر قريبا (لقاء متلفز في 15 نيسان 2021)!
أما عملية «صولة الفرسان» التي نفذها المالكي في البصرة عام 2008، فقد أشار المالكي إلى أن العملية كانت موجهة، كما قال، ضد «العصابات» أو «المليشيات» التي سيطرت على البصرة وعلى موانئها، وأنه استطاع أن يكسر هذه الميليشيات وينزع أسلحتها، وألمح، حينها، في لقاء مع مجلة الأسبوعية، إلى أن الصدريين لم يكونوا الهدف، ولكنهم كانوا طرفا في المعركة، إذ قال «هذه القوى السياسية هي التي أرادت أن تكون هناك معركة على قاعدة (يكاد المريب يقول خذوني). كلا لم يكونوا مقصودين، ولعلّ المصلحة دفعت بهم الى أن يكونوا في هذا الموقف كي تحسم المعركة معهم. هذا ما جرى في الحقيقة» (الأسبوعية بتاريخ 20 نيسان 2008).
لكن المالكي في تسريبه الجديد تحدث صراحة، ربما للمرة الأولى وبشكل علني، عن أن عملية «صولة الفرسان» كانت موجهة أساسا ضدهم، بعيدا عن المفردات التي وصفهم بها والتي تعكس حالة من الكراهية والتشفي لا تليق بشخصية سياسية لاسيما أن الوقائع تشي بأن الرجل، منذ توليه السلطة، كان يقتص من خصومه في سياق الصراع على النفوذ بعيدا عن الشعارات التي يرفعها!
المفارقة هنا أن المالكي لم ينتبه، وهو ينتقد الصدريين في حديثه المسرب عن «جرائم الإعدام خارج إطار القانون» إلى أنه هو نفسه ودولته بكامل سلطاتها ومؤسساتها، كانوا شركاء أصلاء في هذه الجرائم حين سكتوا عنها، وغطوا عليها، لأسباب طائفية بحت!
ألم نقل دائما إن المعضلة الحقيقية في العراق إنما تتعلق بطبيعة الطبقة السياسية، وثقافتها، وخطابها، وسلوكها، وأن فكرة قيام ديمقراطية بلا ديمقراطيين، هي محض خرافة.