هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اندلعت موجة صراع جديدة بين التيارات الشيعية في العراق في شهر رمضان الجاري، تمثلت في هدم بعض المساجد وحرق مكاتب ما يعرف بجماعة الصرخي، في وسط وجنوب العراق، كما دخلت المؤسسات الحكومية الرسمية متمثلة بالقضاء والشرطة على الخط، واعتقلت أكثر من عشرين شخصا من الصرخيين، كما أعلن مجلس القضاء العراقي الأعلى، أن محكمة تحقيق العمارة في محافظة ميسان جنوبي العراق، أصدرت مذكرة قبض بحق «المتهم محمود عبد الرضا محمد المعروف بمحمود الصرخي» وأضاف البيان أن «إصدار مذكرة القبض جاء وفق أحكام المادة (372) عقوبات، التي تنص على معاقبة من يعتدي بأحد الطرق العلنية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية، أو حقّر من شعائرها». علما أن الصرخي غير موجود حاليا في العراق، بل يقيم في بلد عربي آخر.
في البدء لا بد من تسليط بعض الضوء على شخصية الصرخي ومساره الفقهي والسياسي، وتكوين تياره. هو محمود عبد الرضا محمد ولد عام 1964في منطقة الحرية، وهي من الأحياء الشعبية في بغداد، درس الهندسة المدنية في كلية الهندسة جامعة بغداد، وتخرج فيها عام 1987، أما دراسته الدينية فقد ابتدأت وهو في الثلاثين من عمره في ظل تصاعد موجة شعبية المرجع محمد الصدر (والد مقتدى الصدر) عام 1994، وفي غضون خمس سنوات قضاها في مدرسة الصدر، وضع محمود الصرخي على رأسه العمامة السوداء، باعتباره متحدرا من نسل الإمام الحسن، وأصبح لقبه مركبا (الحسني الصرخي) ووضع قدمه على أول سلم الدرجات الدينية، لكن الصدر سرعان ما اغتيل عام 1999 وأصيب تياره الشعبي بنوع من الكمون، حتى إطاحة نظام صدام حسين في نيسان/إبريل 2003 إذ خرج التيار الصدري على شكل تسونامي جماهيري التف حول رجل الدين الشاب حينذاك مقتدى ابن محمد الصدر.
حصلت انشقاقات متلاحقة في التيار الصدري، وخرجت من عباءته أحزاب وتيارات سياسية ودينية، وكان من أوائل التيارات الخارجة من عباءة الصدر الثاني التيار الصرخي وتيار محمد اليعقوبي، المرجع الشاب، صديق ونسيب وزميل محمود الصرخي، إذ مر (المرجعان) الشابان بخطوات متشابهة منها، دراسة الهندسة المدنية في جامعة بغداد، ثم الدراسة الحوزوية في مدرسة محمد الصدر في النجف، ثم ارتباطهما بعلاقة مصاهرة، لكن صراعات النفوذ اشتعلت بينهما، علما أن اليعقوبي يتمتع بثقل فقهي أكبر من الصرخي في الحوزات الدينية، كما إنه أكثر حصافة سياسية، إذ أسس «جماعة الفضلاء» في أول انشقاق له عن التيار الصدري، وهذه الجماعة تحولت مبكرا إلى حزب الفضيلة الإسلامي الذي اشترك في العملية السياسية، فحصل رجاله على حصتهم من الكعكة، بينما لم يحصل ذلك مع الصرخي وحزبه (الولاء الإسلامي) الذي أسسه هو الآخر مبكرا، لكن من دون أن يكون له تأثير ملموس في الساحة السياسية الشيعية .
ويشير رشيد الخيون في كتابه «مئة عام من الإسلام السياسي بالعراق (الشيعة)» ضمن حديثه عن المجموعات المهدوية، إلى ولادة جماعة الصرخي المبكرة في مدينة الحلة في الفرات الأوسط في استعراض بالملابس الرياضية التي طبع عليها صورة مرجعهم محمود الصرخي، وهم يرفعون شعارا تاريخيا هو (يا منصور .. أمت أمت) الذي رفعته عدة ثورات في التاريخ الاسلامي بينها، ثورة زيد بن علي، وثورة المختار الثقفي، وثورة العباسيين. كما يشير الخيون إلى التنافس بين اليعقوبي والصرخي بقوله: « يغلب عليّ الظن أن السيد الصرخي بدأ بمشروع سياسي، مثلما هو الشيخ اليعقوبي، فقيه أو ولي حزب الفضيلة، وهما المهندسان المدنيان والتلميذان لمرجعية محمد محمد صادق الصدر، بحسب سيرتيهما، ومن جيل التسعينيات في الدراسة الدينية، إلا أن الصرخي حاولها عن طريق المهدوية، فهي الطريق الأسرع والأمضى لدى البسطاء، لكنه تراجع وعكف على الشأن المرجعي، ليعلن نفسه الأعلم، والمرجع الأعلى، وآية الله العظمى، وحصل على مؤيدين، ولا يهم الأمر إذا كثروا أو قلوا». لقد اشتبك الصرخيون عدة مرات مع تيارات سياسية ودينية شيعية، وهاجموا الحكومات المتلاحقة واتهموها بالفساد، كما هاجموا المرجعيات الشيعية التقليدية على خلفية سيطرتها على الأموال والأوقاف الدينية، وكان لجماعة الصرخي أدوار مواربة في أحداث التمردات والانتفاضات الشعبية منذ 2011، واتهموا بإحراق القنصليات الإيرانية في البصرة وكربلاء، نتيجة عداء الصرخيين للنفوذ الإيراني في العراق، وهو الأمر الذي أجج الكثير من الاتهامات ضدهم، إذ عوملوا على إنهم متحالفون مع بقايا نظام صدام والبعثيين، أو إنهم «دواعش» الشيعة، أو إنهم طابور خامس لبعض الممولين الخليجيين العاملين على إثارة الفتن بين فرقاء الشيعة.
والأزمة الأخيرة اندلعت إثر خطبة الجمعة 11 إبريل الجاري في أحد مساجد الصرخيين في قضاء الحمزة الغربي في محافظة بابل، إذ ذكر علي المسعودي، وهو خطيب جمعة يرتدي ربطة العنق مع الملابس الغربية الحديثة الأنيقة، ويصفف شعره على طريقة نجوم الفن، وقد تحدث في خطبته عن عدم قدسية القبور والمراقد التي تقام عليها، ودعم كلامه بأحاديث نبوية وشواهد تاريخية من سيرة أئمة الشيعة. وللأمانة لم يطالب المسعودي بهدم القبور أو المقامات والمزارات بشكل مباشر، علما أن هذا الأمر فيه خلاف فقهي كثير بين الطوائف الإسلامية، وحتى بين مراجع الشيعة أنفسهم. وقد ذكر علي المسعودي، الذي اعتقل لاحقا على خلفية خطبته، نص الحديث النبوي المذكور في رواية الإمام جعفر الصادق في أهم كتب الحديث عند الشيعة مثل «الكافي» و»وسائل الشيعة و»جامع أحاديث الشيعة» والحديث هو:»عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جعفر الصادق قَالَ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن ابي طالب(ع) بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ (ص) فِي هَدْمِ الْقُبُورِ وَكَسْرِ الصُّوَرِ». كما ورد الحديث بصيغ أخرى مثل: «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ (ص) إلى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَا تَدَعْ صُورَةً إِلَّا مَحَوْتَهَا وَلَا قَبْراً إِلَّا سَوَّيْتَهُ وَ لَا كَلْباً إِلَّا قَتَلْتَهُ». كما يروى عن الإمام جعفر الصادق في «وسائل الشيعة» أنه قال: «نهى رسول الله (ص) أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه». وكل هذه الأحاديث كانت مثار نقاش وخلاف فقهي على مدى تاريخ التشيع، فلماذا عومل هذا الطرح اليوم بهذا العنف الشعبي والحكومي؟ ولماذا تم تحشيد البسطاء للانتقام من الصرخيين تحت شعار (إنهم يريدون هدم مرقد الإمام الحسين في كربلاء)؟
الحقيقة أن خطيب الجمعة الصرخي، كان يطرح الإشكال الفقهي التاريخي بشكل عارض، لكن مقصده السياسي كان يشير ضمنا إلى أمر آخر تماما، لم يجرؤ على التصريح به، إذ كثيرا ما طرح الصرخيون موضوع البذخ في بناء مزارات ومقامات هائلة على قبور رجال ورموز الإسلام السياسي الشيعي، مثال ذلك المقامات الباذخة المقامة على قبور؛ محمد باقر الحكيم فقيه المجلس الإسلامي الأعلى، ومحمد باقر الصدر فقيه حزب الدعوة، ومحمد محمد صادق الصدر فقيه التيار الصدري، حتى باتت وكأنها مقامات أو مزارات أئمة وأولياء الشيعة. لذلك تلقف الإشارة خصوم الصرخيين من تيارات وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي كالتيار الصدري وتيار الحكمة وحزب الدعوة ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق، وشنت الحملات الحكومية على أنصار الصرخي وتم اعتقالهم، بينما وقفت الجهات الحكومية تتفرج على جهات شعبية وميليشياوية شيعية تهدم وتحرق مساجد ومكاتب المرجع الصرخي، من دون أن تحرك ساكنا.
لقد بدت غضبة مقتدى الصدر واضحة في لغته المليئة بالتهديد في بيانه الذي صدر بعد الأزمة، إذ دعا إلى عدم التغاضي عن انتشار ما وصفه بـ(العقائد الفاسدة) في المجتمع العراقي. وذكر الصدر في بيانه:» ينبغي عدم التغاضي عما يحدث في المجتمع العراقي من انتشار العقائد الفاسدة من هنا وهناك، وإن بعض من ينتمون بالتقليد إلى الصرخي ولا أعلم بأنه على علم بذلك أم لا، ممن يحاولون إدخال بعض العقائد المنحرفة إلى المذهب الشريف والعقيدة الجعفرية، وآخرها ما صدر من إمام جمعة لهم في محافظة بابل وذلك بالمطالبة بهدم القبور». وتابع الصدر «من هنا فإني أنتظر من الصرخي التبرؤ من هذا المجرم.. خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام، وإلا فإنني أجد نفسي ملزما بالتعامل معه ومع أمثاله بما يمليه عليّ ضميري وديني ومذهبي ووفقا للشرع والقانون والعرف الاجتماعي المعقول». وفي النهاية سيكون ما حصل عبارة عن أزمة عابرة وجولة من جولات الصراع الشيعي ـ الشيعي لن تلبث أن تنسى مع موجة جديدة من أحداث العراق المكلوم.
(القدس العربي اللندنية)