هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حدثني مصوّر بريطاني عاد لتوه من أوكرانيا كيف أنه قضى أكثر من أسبوعين هناك في قلق شديد بين سلامته الشخصية ومتابعته لأوضاع زوجته التي تركها وحيدة مع ابنهما الرضيع فإذا بها تصاب بكورونا.
مع ذلك هو مصوّر محظوظ ليس فقط لأنه كان يعمل في مناطق غرب أوكرانيا الأقل سخونة عسكريا بل لأنه لم يبق هناك فترة طويلة عاد بعدها سالما إلى أهله وهذا ليس دائما قدر من يذهبون لتغطية الحروب.
لا أنسى أبدا ما ذكره لي الصحافي البريطاني الشهير روبرت فيسك وقد التقينا صدفة في مطار بغداد عام 2003 قبل يومين فقط من بداية الغزو الأمريكي للعراق حين قال إن الصحافيين هم الوحيدون في العالم الذين تراهم يتجهون إلى أماكن يفر منها أهلها. يفعلون ذلك مع أنهم يعلمون جيدا أنهم قد يدفعون حياتهم ثمنا ومع علمهم أيضا أن لا قصة صحافية تستحق ذلك الثمن لكنهم ليسوا هم دائما من يرمون بأنفسهم إلى التهلكة، فقد يصاب أحدهم برصاصة طائشة أو يستهدفه مسلّح رغم علمه الكامل بصفته الصحافية الواضحة للجميع.
“صعب ومؤثر ومؤلم” هكذا وصفت “لجنة حماية الصحافيين” في نيويورك مناخ العمل الصحافي هذه الأسابيع في الحرب الروسية على أوكرانيا والتي ذهب ضحيتها حتى الآن الصحافي الأمريكي برنت رينو الذي عمل لفترة مع “نيويورك تايمز” فيما جرح آخر معه، وبعدهما بأيام قليلة تعرضت سيارة فريق قناة “فوكس نيوز” الأمريكية إلى هجوم ما أدى إلى مصرع المصور الإيرلندي بيار زارزيوسكي وزميله من نفس الفريق المراسل الأوكراني أولكسندرا كوفشينوفا فيما أصيب المراسل البريطاني بنيامين هول بجروح خطيرة نقل إثرها إلى المستشفى قبل أن يتم إجلاؤه إلى الخارج لمواصلة العلاج. كما حوصر فريق تلفزيون “العربي” في منطقة إربين، شمال العاصمة الأوكرانية كييف، لأربعة أيام ظل خلالها المراسل عدنان جان والمصوّر حبيب ديمرجي في خطر قاتل، بعدما تعرّض الفريق لإطلاق نار مباشر من القوات الروسية.
جرى كل هذا والحرب في شهرها الأول مما ينذر بأن أياما أصعب تنتظر المراسلين الموجودين هناك خاصة إذا دخلنا مرحلة حصار محكم للعاصمة كييف ومحاولة إسقاطها. كل ذلك، وما جرى في حروب سابقة عديدة يقيم الدليل مرة أخرى على الثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه عديد الصحافيين وخاصة أولئك الذين ينقلونها حية بالصوت والصورة فذلك هو الأبلغ والأكثر تأثيرا وبالتالي الأقدر على تحريك الرأي العام لمعارضة الحروب المقيتة ومآسيها المختلفة.
ربما تكون التجربة التلفزيونية العربية الأولى في تغطية الحروب بشكل مختلف عن التغطيات العادية أو حتى الدعائية التي خبرها الرأي العام العربي في حروب سابقة، عبر الإذاعات خاصة، هي تجربة “أم بي سي” حين غطت حرب الانفصال في اليمن عام 1994 بين شماله وجنوبه بعد أربع سنوات فقط من توحيدهما في ظل الرئيس الراحل علي عبد الله صالح. لكن مع انطلاق قناة “الجزيرة” كأول قناة إخبارية عام 1996 دخلت مثل هذه التغطيات طورا جديدا بعد أن كان العالم قد فتن بتغطية “سي إن إن” لحرب الخليج الثانية وتحرير الكويت عام 1991.
كانت تجربة قناة “الجزيرة” الأولى في عملية “ثعلب الصحراء” في كانون الأول/ ديسمبر 1998 وهي العملية التي تعرض فيها العراق لعدوان أمريكي لأربعة أيام بغارات مكثفة استطاع أن ينقلها ببراعة إلى الجمهور العربي والعالم الصحافي الفلسطيني الراحل محمد خير البوريني، ثم توالت الحروب ليثبت مراسلو هذه القناة قدرتهم على نقل الوقائع الأكثر قسوة، من الانتفاضة الثانية عام 2000 وفريق فلسطين المكوّن من وليد العمري وشيرين أبو عاقلة وجيفارا البديري، إلى حرب أفغانستان ونجمها الشهير تيسير علوّني الذي دفع ثمن تلك التغطية غاليا، بين سجن وإقامة جبرية في بيته بعد محاكمة ظالمة في إسبانيا، ثم جاء غزو العراق عام 2003 الذي تميزت فيه المحطة بفريقها الذي قتل منه طارق أيوب من على سطح مكتبها في بغداد فكان أول من تفقده المحطة من أبنائها، فيما تعدد قتل الصحافيين لاحقا في بلاد الرافدين.
كما أبدعت في تلك الأحداث قناة أبو ظبي مع شاكر حامد وزملائه. ثم توالت الحروب الإسرائيلية على لبنان وعلى غزة وفي كليهما أبلى مراسلو “الجزيرة” الحربيون البلاء الحسن وظل الجمهور العربي يحفظ عن ظهر قلب أسماءهم مثل عباس ناصر وغسان بن جدو ومازن إبراهيم وتامر المسحال ووائل الدحدوح وهبة عقيلة وغيرهم. وحتى في ثورات الربيع العربي، لم يتردد المراسلون المختلفون لشبكة “الجزيرة” في نقل وقائع ما جرى في سوريا من ويلات دفعوا ثمنها حياتهم مثل محمد المسالمة ومهران الديري وحسين عباس ومحمد القاسم ومحمد الأصفر وزكريا إبراهيم وإبراهيم العمر، كما قتل في ليبيا المصور القطري علي جابر بعد أن تعرضت سيارة فريق المحطة إلى عملية إطلاق نار مقصودة.
تحية تقدير وامتنان لكل هؤلاء وحفظ الله الذي ما زال يكابد هناك لنقل وقائع الحروب حتى لا يقول أحد يوما ما إنه لم يكن يعلم.