هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتبادل الاتهامات بين الشرق والغرب، ظهر المسروق؛ الخصمان سرقا أمن واستقرار ورفاهية شعوب العالم، وبدت القيم الحضارية المزعومة أشبه بالأساطير أو الميثولوجيا، فلم تعد إلا نوعا من الحكايات الخرافية. فقد ألقت هذه الحرب المدمرة أضواء كاشفة على الحقيقة المجردة، التي طالما ظلت تئن تحت وطأة نفاق الكبار وقد ظلوا يأمرون الناس بالبر وينسون - بل يتناسون – أنفسم. انكشاف الحقيقة تأكيد على أن ظل القيم الإنسانية لا يستقيم وعود الممارسات الفعلية أعوج.
قبل نحو 75 عاماً والحرب العالمية الثانية توشك على الانقضاء وقد جاءت على كل أخضر ويابس وبلغت قلوب المتصارعين حناجرهم، اجتمع ممثلو 50 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، بالولايات المتحدة الأمريكية تحديدا في أبريل 1945. وقد شرعوا في صياغة ميثاق أدى بعد توقيعه إلى إنشاء منظمة دولية جديدة، باسم الأمم المتحدة، التي كان من المأمول أن تمنع نشوب حرب عالمية أخرى مثل التي جاءوا من ركامها وهم يجمحون طلبا للسلام والأمان. وسرعان ما بدأت الأمم المتحدة عملها رسميًا في غضون 6 أشهر فقط. لكن مع مرور الوقت لم تعد الأمم المتحدة سوى مبانٍ ومكاتب مكتظة بملفات ضخمة من التنظير لقيم ومُثل تعمل على الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتقديم المساعدة الإنسانية للمحتاجين، وحماية حقوق الإنسان، والتمسك بالقانون الدولي، بل وحتى أهداف التنمية المستدامة والعمل على الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. لكن اليوم بدت هذه الأهداف نوعاً متطرفاً من اليوتيبيا لم تقدر على الإحاطة بها حتى مدينة أفلاطون الفاضلة.
ما نراه أن الكبار والصغار من المسؤولين الدوليين أو مسؤولي الأمم المتحدة يلعبون على مسرح نفاق السياسة الدولية، بينما تستمر الأزمات الدولية والحروب المستعرة تطحن الشعوب المستضعفة، وفي مقدمة هذه الأزمات أزمة الضمير العالمي. فإن كانت المنظمات الدولية تمثل الضمير العالمي وأهمها الأمم المتحدة؛ فهي لم تعد سوى قصر مشيد وبئر معطلة. حصون رفيعة منيعة، وميزانيات مليارية سنوية تتدفق بغير حساب، وموظفون امتلأت وتضخمت حساباتهم بالرواتب والنثريات، يروحون ويجيئون لم يجيدوا شيئا مثلما أجادوا رسم الابتسامات المصطنعة والباهتة.
في أحيانٍ كثيرة تبدو الثقافة والقيم المصنوعة والمرتبطة بكمياء السياسة والقوة، مفضوحة مكشوفة العورة، ويحاول قارعو طبولها عبثا، بحثا عن أوراق توت تستر ما انكشف منها. وشهد شاهد من أهلها حين قال الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار إن الليبرالية، والاشتراكية، والماركسية، وفلسفة التنوير عموما، أنظمة فلسفية وعدت البشرية بالتحرر من الفقر والجهل والقمع والظلم غير أنها فشلت فشلا كبيراً في نهاية المطاف وتوشك أن تنهار، ومن الواضح أن فترة ما سميت بمرحلة الحداثة قد تعرت تماما.
اليوم أقبلت روسيا والولايات المتحدة وصويحباتها على بعضهم يتلاومون، ويذكر بعضهم بجرائم بعض؛ روسيا تذكر الولايات المتحدة وصويحباتها، بغزوها للعراق وتدميره وإبادة أهله. والولايات المتحدة تذكر روسيا بغزوها لسوريا وتدميرها وإبادة أهلها. أما لماذا صمتت روسيا على جرائم الولايات المتحدة في العراق، وكذلك صمت الولايات المتحدة على جرائم روسيا في سوريا؟، فذلك لأن اللصين لم يكن ليختلفا بعد. فقد ظل العالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية محكوما بقلة قليلة ممثلة في روسيا والولايات المتحدة وصويحباتها ولا تشكل أكثر من 1 % من العالم، بينما 4 % من دول العالم يتم تحريكها من قبل القلة القليلة مثل العرائس في مسرحها، غير أن هناك 5 % من دول وشعوب العالم مدركٌ للحقيقة. بيد أن الدراما الحزينة، والدراما بالطبع هي تصوير للأحداث بنوعيها الخيالي وغير الخيالي، تكمن في محاولات الـ 4 % لمنع الـ 5 % من إيقاظ الـ 90 %.
يشير الكاتب العراقي سليم مطر في كتابه (المنظمات السرية التي تحكم العالم) إلى سياسة "الراية الخدّاعة" التي انتهجتها الولايات المتحدة في طول العالم وعرضه، والتي اعترف بها أحد زعماء فيدرالية الأخوة العالمية FBI مودعا الحياة الدنيا، والذي نقل عنه في ذلك الكتاب قوله إنهم – يقصد الولايات المتحدة - لم يبلغوا ما أسماه بالنجاحات الكبرى في تدمير العراق خصوصاً باعتباره نموذجا لبلدان الشرق الأوسط الخطرة إلا لأننا استعنا بخلاصة تجاربنا السابقة التي نفذناها في العالم والتي أطلقنا عليها تسمية "سياسة الراية الخدّاعة". وتتلخص هذه الحيلة الماكرة في قيام الولايات المتحدة بعمليات إرهابية ضد مصالحها ثم نسبها إلى خصومها لتعطي التبرير لإعلان الحرب عليهم. وسرد ذلك الرجل أمثلة كثيرة لاستخدامات "سياسة الراية الخدّاعة" منذ العام 1941 وصولا إلى الحرب على العراق في 2003، حيث أكد نجاحهم في تأجيج الحرب الطائفية ونشر العنف والأحقاد من خلال فرض سياسة اجتثاث حزب البعث التي قصد منها اجتثاث الدولة العراقية نفسها.
من المدهش أن الصراع الذي يدور رحاه اليوم بين الشرق والغرب بأدوات وأساليب غير أخلاقية، فإن انتصار أي من الطرفين يمثل خسارة في كلا الحالتين لطرف ثالث. هذا الخاسر هو قلب العالم الجغرافي ومهوى القيم الإنسانية والرسالات السماوية؛ والسبب أن العالم العربي والإسلامي اختار التخلي عن خيريته التي أخرج بها للناس والانزواء إلى منطقة رمادية تكفيه مواجهة الباطل لا بالسلاح ولا حتى بسديد الرأي. لكن تجنب الصدام ومخافة مقارعة الحجة بالحجة تفقد الدول والشعوب موقعها الإيجابي بين الأمم وليس ذلك فحسب، بل تكون هي الخاسر في كل الأحوال. فلو أن الشرق قهر الغرب في هذه الحرب، أو أن الغرب قهر الشرق؛ فإن قوى إقليمية مختلفة سيتعزز موقفها الإقليمي والدولي عسكريا واقتصاديا، ووضع كل من هذه القوى المُعزز سيكون على حساب المنطقة العربية وخصما عليه.
(الشرق القطرية)