مقالات مختارة

البوتينية واليمين السوفياتي و"مكافحة النازية"

وسام سعادة
1300x600
1300x600

ما يقوله فلاديمير بوتين عمليا للشعب الروسي في هذه الأيّام؛ إنّه أيّا كان موقف كل نفر في هذا الشعب من المغامرة الحربية الكبرى التي أدخلت القيادة السياسية والعسكرية البلاد بها، فإن طريق الرجعة بات مقطوعا، والتعثّر في مغامرة بهذا الحجم لن يكون هزيمة للرئيس وحده أو لهذه القيادة فحسب، بل سيكون هزيمة مباشرة وشاملة لكل الروس.

لأجل ذلك، فالدعاية الروسية –على تهلهل حججها وتواضع مؤثراتها إزاء الإعلام الغربي، والتضامن العابر للقارات مع الأوكران في مواجهة الغزو المتواصل لوطنهم–، إلا أنّها تركّز على هدف محدّد وتصيبه: تفسير كل ردات الفعل والمواقف والإجراءات الغربية على أنها تأكيد أن أي انشقاق داخلي وأي تعثر للجيش في أوكرانيا، سيدفع الروس ثمنه جميعا، وبمنتهى القساوة.

في دعاية كهذه، صدى لما يعتمل منذ نهاية الثمانينيات في صدور الأجيال المتعاقبة من الروس. فتفكيك الاتحاد السوفياتي كان على يدهم، لم يغصبهم الأمريكيون عليه. هم الروس الذين ما عادوا مقتنعين بالشيوعية، ومع ذلك عوقبوا على ذلك وعوملوا كمهزومين.

طبعا، من الزاوية الأمريكية والغربية لا يُعقل عدم تمييز رابح من مهزوم في نهاية الحرب الباردة. أما عند الروس فالمسألة تختلف. فمن ناحية، إسقاط الاتحاد السوفياتي كان على يدهم، وروسيا الاتحادية هي من أعلن استقلاله عن الاتحاد السوفياتي بعد أن كانت كبرى جمهورياته. لكن من ناحية ثانية ثمة قناعة يتشاركها قسم كبير منهم، وعبّر عنها بوتين بوضوح، وهي تعتبر زوال الاتحاد “كارثة جيوبوليتيكية” لروسيا. ليس فقط لأن زواله جلب اختلالا فظيعا في الميزان العالمي للقوى، بل لأن تحويل الحدود التي كانت قائمة بين جمهوريات الاتحاد إلى حدود دولية بين البلدان وبشكل آليّ، لا يمكن أن يسمح للجمهوريات السابقة بممارسة سيادتها كاملة إلا على حساب روسيا الاتحادية، ويأكل من رصيد الروس الإثنيون واللغويون.

يتصل ذلك بهذا العنوان الغريب المعطى لعملية غزو وتفكيك أوكرانيا: محاربة النازيين.. في العام 2022!!

فهناك من ناحية من يضيء على حيثيات يُفسَّر بها كلام بوتين، ليس أقلها تعاون القوميين الأوكران مع الاحتلال الألماني إبان أعوام الحرب، وانتماء قسم أساسي من المعادين لروسيا والروسنة في أوكرانيا إلى هذه المدرسة، مدرسة ستيبان بانديرا التي تمكنت الاستخبارات السوفياتية من تصفيته في ميونيخ خريف 1959 بعد أربعة عشر عاما على اندحار النازية، وهي أعوام تواصل فيها الصراع بين السوفيات و“منظمة القوميين الأوكران” في غرب أوكرانيا. يأتي بعد ذلك النظر في مصائر هذه الفاشية الأوكرانية، وما هي نسبتها من مجموع القوى في أوكرانيا اليوم، وما هي نسبتها لليمين المتطرف الروسي الشبيه بها في الكثير أيضا.

هناك في المقابل، من يستهجن كيف يمكن اتهام بلد رئيسه يهودي بأنه مؤيد للنازية. هذا مع أن المعسكر المؤيد للغرب في كييف استطاع منذ 2004 الجمع بين رد الاعتبار إلى شخصيات مرتبط اسمها بسفك دماء اليهود مثل سيمون بتليورا وستيبان بانديرا، وبين “محاباة السامية” عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

وهذه الازدواجية غير محصورة بأوكرانيا، يمكن لحظها أيضا في معشر ورثة “الأوستاشا” القومية المرتبطة بالاحتلال النازي وباضطهاد اليهود في كرواتيا. ما يقوله القوميون الأوكران؛ إن فظائع أسلافهم ضد اليهود كانت بسبب احتسابهم اليهود على الدولة الشيوعية، واحتسابها كدولة على اليهود، وأن الأمر تبدّل بعد ذلك، وانفكّ اليهود عن هذه الدولة، وغدوا يبتغون الهجرة إلى الغرب وإسرائيل، فلم يعد ثمة أساس عميق للمشكلة معهم!

أي إن اليهودي الذي حاربوه هو اليهودي الذي كان يذكرهم بالبلاشفة. واليهودي الذي يحبونه هو الذي يذكرهم بإسرائيل، وبخاصة بالجناح التنقيحي من الحركة الصهيونية، الذي تأسس في أوديسا نفسها على يد فلاديمير(زئيف) جابوتنسكي مطلع القرن الماضي، مع بناء مليشيا الدفاع الذاتي اليهودي في المدينة بعد مذبحة كيشينيف (عاصمة مولدافيا اليوم) ضد اليهود، وقد استوحى القوميون الأوكران من تجارب كهذه على تماس جغرافي معهم، وليس فقط من التجربة الفاشية والنازية. بل إن الصلات بين جابوتنسكي والقوميين الأوكران حتى في مرحلتهم اللاسامية الحادة لم تنقطع.

بيد أن موال مكافحة النازية الذي يستجلب على بوتين الهزء والاشمئزاز خارج روسيا، كونه قبل كل شيء سيخسر مباشرة المعركة الميديائية تجاه نظام يتهمه بالنازية ورئيسه المنتخب يهودي، هو في الوقت نفسه شيفرة قومية روسية وظيفية: الفكرة من ورائها أن الروس الإثنيين هم الذين دفعوا الضريبة الكبرى لدحر النازية، وأن أي محاصرة لهم أو تطويق، هو شكل من أشكال إعادة تأهيل مشاريع ألمانيا الهتلرية تجاه الشرق.

من ثم، الدعاية الروسية حول ضرب انبعاث النازية في أوكرانيا لا تنحصر في “كشف أصول” القوميين الأوكران، إنما الأساس فيها هو أن الروس الإثنيين هم الذين قدّموا أوسع التضحيات وأعلى البطولات ضد ألمانيا النازية، وكل محاولة لإضعافهم هي شكل من أشكال النازية.

دعاية كهذه، ليست تتمحور حول إبادة اليهود كي يكون الرئيس اليهودي لأوكرانيا بمنزلة ضربة قاضية لها على المستوى العاطفي الروسي، وإن كان زيلينسكي حجة كافية لإبطال الدعاية خارجيا.

الخطاب الروسي منذ عقود طويلة مبني على أن الروس ضحوا بخمسة أو ستة أضعاف عدد من قضى من اليهود، وأنهم الأولى بالمظلومية كما بنسب الانتصار لهم من سواهم، وأن الاتحاد السوفياتي بسبب من طبيعته الأممية، ظلم الروس الإثنيين ولم يعط لهم القدر المستحق والواضح في السردية الرسمية عن الحرب الوطنية العظمى، بل سوّاهم بالقوميات الأخرى (إلا تلك التي اعتبرت رسميا غير وطنية وعميلة وجرى ترحيلها)، باستثناء النَخَب الذي تقصّد جوزيف ستالين رفعه بوضوح للروس الإثنيين عند النصر.

بالنسبة إلى الخطاب القومي الروسي، الروس الإثنيون هم الضحية القصوى للنازية وليس اليهود. ولأجل ذلك أيضا يمكن لهذا الخطاب أن يمزج بين رؤية النازية في كل مكان، واحتضان النزعات اللاسامية.

هذا المزج بين تمغيط مقولة مكافحة النازية والنزعة اللاسامية في روسيا اليوم، يقوم على مفارقة اتهام اليهود في الوقت نفسه بأنهم جلبوا الثورة الشيوعية لروسيا، وبأنهم ساهموا في تخريب الاتحاد السوفياتي. وفي هذا محاكاة للكيفية التي يجمع بها بوتين بين الحنين للاتحاد السوفياتي والنقمة على لينين. وهذه عند الروس عصارة تيار له باع طويل.

فبعد الحرب الأهلية الروسية، انقسم الخاسرون من “البيض” فيما بينهم في المنافي الأوروبية.

قسم اعتبر أن الدولة السوفياتية هي نقيض لكل التاريخ الروسي. ولأجل ذلك راح هذا القسم بعيدا في اللاسامية، فاعتبر أن الدولة السوفياتية هي دولة سيطرة اليهود على روسيا من خلال الشيوعية.

لكن قسما راح في الاتجاه المعاكس تماما، اعتبر أن الثورة كانت كارثة (تفسّر أيضا بتهمة لاسامية ضمنية أو واضحة لليهود)، لكن الدولة التي نتجت عن الثورة، يسجّل لها أنها استطاعت إيقاف الثورة، ومن ثم استطاعت استئناف التاريخ الإمبراطوري الروسي، وبمن ثم الإمبراطورية الروسية المنقطعة مع لينين عادت واستأنفت وجودها مع ستالين.

قسم من هؤلاء المهاجرين قال ذلك في المنفى، وقسم منهم عاد. بعض العائدين جرى التنكيل به لاحقا، والبعض الآخر انضوى تحت عباءة الدولة والحزب؛ شكّل ما يمكن وصفه اليمين السوفياتي.

هذا اليمين السوفياتي المتعدد المشارب لم يكن مقتنعا بسردية الثورة، لكنه كان مقتنعا بملحمة إعادة بناء الدولة الإمبراطورية بنتيجة الثورة، ولأجل ذلك اعتبر أن الحرب الوطنية العظمى هي الثورة الحقيقية وليس ثورة أكتوبر، لكنه أخذ على الدولة في الوقت نفسه أنها لم تسجّل النصر بشكل أساسي للروس الإثنيين، للروس الكبار.


البوتينية تنتمي إلى هذا الجذر.

 

القدس العربي


0
التعليقات (0)

خبر عاجل